ثقافة

لأنّه الحبّ.. وسام محمد ونوس

لأنّهُ الحُبّ، بكلّ ما لهذه الكلمةِ من حضورٍ وعمقٍ وإنسانيّة، فقد استطاعَ أن يفرضَ سطوته على أحلامِنا، وهواجسِنا، وتفاصيلِ حياتِنا اليومية، بل أكادُ أسمح لنفسي بالقولِ بأنّ الحبّ باتَ حاكماً بأمرِ تصرّفاتِنا، وردودِ أفعالنا في غيابه، وحضورهِ على حدّ سواء! لأنّهُ الحبّ، نعيشُ على أملِ اجتياحهِ لأحاسيسِنا، ننتظرُ أوّلَ دقّةِ قلبٍ مختلفة، أوّل فرحٍ غيرِ مألوفٍ، أوّلَ لمعانٍ في نظرةِ العين، أوّلَ ابتسامةٍ دون إرادةِ الشّفاه، أوّلَ انهمارٍ وانهيارٍ عاطفيّ مُرتجى! لأنّهُ الحبّ، نسلّمُ قلوبنا مفاتيحَ العقل، دونَ أن نسألَ عن الظّروفِ، دونَ أن نسمحَ للأمكنةِ أن تسرقَ منّا فرحةَ النّبض، دونَ أن نهتمّ بشكلٍ، أو انتماءٍ، أو طائفةٍ، أو لهجة! لأنّه الحبّ، ننسى أسماءنا على الورق، ونُطلقُ على مشاعرنا صفاتِ الآخر، نتحدّثُ بلغةٍ أخرى لم نعتد على لذّةِ حروفِها، نستخرجُ من دواخلنا أجملَ الكلمات، نُبحرُ في رحابِ الخيالِ لنجمعَ من براعمِ الأحلامِ أزكى عطورِ الأمل، لأنّهُ الحبّ، بكاملِ جلالةِ احتلالهِ، نتحوّلُ، ونتبدّلُ، ونتبادلُ الأرواحَ كأنّها باقاتُ وردٍ، أو بطاقاتُ دعوةٍ لحضورِ حفلاتِ الفرح الذاتيّة، وندعو إلى مأدبةِ وحدتِنا كلّ الأشياءِ الّتي تجمعُنا بالآخر، كلّ الذكرياتِ الّتي خلقتْ ضحكة من رحمِ نظرة، كلّ اللحظاتِ الّتي سكنت بالَ الحاضرِ، وسحبت بقوةٍ إلى أحضانِ آمالنا، وجهَ الآتي! لأنّهُ الحبّ يا سادة، بأشعّتهِ النّافذةِ إلى كهوفِ الأرواح، نستعيدُ طفولتَنا على يديهِ، يسرقُنا من سجونِ أعمارِنا عائداً بنا كما نحنُ إلى أيّامِ الصّبا، لا يهتمّ بشَيبٍ، ولا يسألُ عن جسدٍ مريضٍ، ولا يعنيهِ الغوصُ في أسبابِ انجذابنا، يهزمُ المنطقَ على أسوارِ العقل، ويمضي بنا إلى ساحةِ الجنون، لنبدأ حربَنا على الواقعِ بسلاحِ النّبضِ الأبيض، لأنّهُ الحبّ، فهو متى شاءَ يستحضرُ الأعيادَ في قلوبنا، متى حلّ نفرح، ونرقصُ على إيقاعِ نبضاتِنا اللاهثة، نرتدي للآخرِ أجملَ ثيابِ ابتساماتِنا، نتعطّرُ برائحةِ أوّلِ زهرةٍ نمت على شرفةِ الخيال، نغنّي بأصواتِ الهمسِ الّذي اختنقَ في حنجرةِ لحنِ العناق، ونهتفُ ملء أصواتِنا في أذنِ الآخر: كلّ عامٍ وأنتَ الحبّ! لأنّهُ الحبّ دائماً، نحتفي بنا تحتَ ظلّه، نفدي بقاءهُ بعيونِ انتظارِنا، ونحمي أنفاسهُ من زفراتِ الرّيح، ونصلّي أمام محرابِ دفئهِ للبردِ المستبدّ!
لم أقتنع يوماً بأنّ يكون للحبّ يوم محدّد نذكرُ فيهِ مَنْ نحبّ، ونتبادلُ التّهاني كأنّنا نوافقُ دونَ قصدٍ أنّ بقيةَ أيامِ العامِ لا تحملُ في طيّاتِ أوقاتِها حبّاً، واهتماماً، وحناناً. ربّما الفكرةُ جيّدةٌ لمَنْ لا تسمحُ لهُ الظّروفُ، والأعمالُ، والسّفرُ بأن يعبّرَ للآخرينَ عن حبّهِ لهم، لكنّها غير ملائمةٍ لمنْ يعيشُ الحبّ بكلّ دقةٍ من قلبهِ، وكلّ رمشةِ عينٍ، وابتسامةِ ودّ. الحبّ غريزةٌ إنسانيّةٌ لا يمكنُ لنا أن نقتلعَها من جذورِ أرواحِنا، ربّما نضيّقُ عليها خِناقَ الكره، ربّما نتجاهلُ حصارَها في زوايا قلوبنا، ربّما نتعمّدُ نسيانَها، ومقاومتَنا لصراخِها، لكنّنا لن ننجحَ أبداً، مهما حاولنا، في اجتثاثِها تماماً من تركيبتنا الإنسانيّة الفريدة. فالحبّ ينمو معنا منذ أوّلِ صرخةٍ، في طعامِنا، وشرابنا، ولحظاتِ لهونا، ومشيتِنا الأولى، وعند أوّل حصةٍ دراسيةٍ في المدرسة، وفي نظرةِ المعلّمِ، وحضنِ الأم، وصمتِ الأبّ، وخوفِ الأخ، وابتسامةِ الصّديق، وعناقِ الحبيبة. لأنّهُ الحبّ يا سادة، الماردُ الأليفُ الّذي يخرجُ من قمقمِ القلبِ، ملبّياً رغباتِ أفراحِنا الملهوفة. لأنّهُ الحبّ نبكي، دونَ سببٍ أحياناً، ربّما بمزيجٍ من الفرحِ، والخوفِ، والدّهشة. لأنّهُ الحبّ نوزّعُ على كلّ من هم حولّنا أطنانَ فرحٍ، ونهبُ السّعادةَ لمنْ لا نعلمُ أنّهُ بأمسّ الحاجةِ لها. لأنّه الحبّ، بكلّ أشكالهِ وحالاتهِ، نسامحُ، ونغفرُ، وربّما نحتضنُ من أساءَ لنا، ونمنعُ الحقدَ من احتلالِ مساحاتٍ في ذواتِنا، ونكافحُ لتطويقِ أحزاننا، كي لا تمتدّ وتحرقَ براعمَ الأمل. لأنّهُ الحبّ، ندوّرُ زوايا اختلافنا وخلافاتنا، نُبرزُ على سطوحِ قلوبِنا أجسادَ القطراتِ النّقية، ونتصالحُ مع أنفسِنا في مرايا الآخرين. لأنّه الحبّ، نسابقُ الزّمنَ على مضمارِ الوقت، لنستعيدَ من لحظاتِ العمرِ أفراحنا. لأنّهُ الحبّ، نبني في خيالاتِنا وطناً أجملَ، نتعالى على جراحِنا، ننزفُ معاً، كلّ من خاصرةِ الآخر، ونسحبُ الآهَ من أفواهنا إلى صمتِ القلوب. لأنّهُ الحبّ، نستمرّ وتتكاثرُ أجيال الأمنيات. لم ولن أقتنعَ يوماً بأنّ للحبّ عيداً، بل كانَ، ومازالَ بالنّسبةِ لي، في كلّ يومٍ هو العيد، وهو مدير أعمالِ المشاعرِ الإنسانيّة، ومحرّك بحثِ الأملِ عن غدٍ جميلٍ، وبصيص أملٍ في نهايةِ كلّ نفقِ دمعةٍ حزينة.