ثقافة

في رحيل نذير نبعة: العلامة الفارقة في التشكيل السوري

فقدت الحركة التشكيلية برحيل الفنان نذير نبعة، أستاذا لأكثر من جيل من الفنانين التشكيليين السوريين درسوا في كلية الفنون، فضلا على تأثيره القوي في الحركة التشكيلية عموما ومنحها سمة السحرية التأملية من خلال ما أنتجه الفنان الراحل في مرحلة السبعينيات ونهاية الثمانينيات من القرن الماضي، بمشاهد النسوة الحوريات في عوالم أندلسية فارهة محاطة بالحرير المجعد، دلالة على ثراء المكان المنتمي إلى المتخيل والشغف الدمشقي وروحية المكان الأنثى والوطن.
هذا الفنان عاش شبابه في مناخ المد القومي والنضال الوطني التحرري الذي شهد نكسات ونكبات أمته. فكان لا بد من اشتعال ذهنه بهذه الأفكار التي اجتاحت أكثر من جيل عربي ناله الحلم بالغد الذي تُرى فيه الأوطان عزيزة وفلسطين المستعادة من دنس الاحتلال، هذه الآمال وصلت إلى عموم أهل الثقافة والفن حتى غدت الصفة العامة المشتركة بين هواجس صنوف الإبداع. والراحل من هذا الجيل الذي أصابته آلام القضية  الفلسطينية وتعززت بعد نكسة حزيران 1967 وقبلها فشل المشروع الوحدوي بين سورية ومصر التي عاشها طالبا للفنون الجميلة في مصر، وتخرج بموضوعه المختار عن عمال المقالع وتصوير معاناتهم ليضع عنوان شخصه المنتمي إلى فكر يناضل من أجل العدالة والمساواة والتحرر، هذا الفكر الذي دفع به إلى المشاركة الفاعلة في إنتاج أولى الملصقات الفلسطينية التي مجدت الشهداء من الفدائيين الفلسطينيين، وتنتصر لفلسطين وقضيتها، وقد وصل تأثير الراحل بمساهماته الغرافيكية الواضحة في مجال الصحافة المطبوعة وفنون الإعلان السياسي وفن الملصق وعلى صفحات هذه المطبوعات، وصولا إلى مجلات الأطفال وتصميمه لبعض الشعارات، منها شعار حركة التحرر الوطني الفلسطيني “فتح” التي كان واحدا من أعضائها، واحد فدائييها الفنانين الذي مارس فترة النضال في أغوار الأردن قبل العام سبعين في سنوات العمل الفدائي الفلسطيني الأولى، وتعد في نظر بعض المهتمين أن هذه المرحلة من حياة الراحل هي الأكثر قوة في منتج نبعة التشكيلي، ولا تقل أهمية عن الغنائية الثرية التي تتصف بها المرحلة اللاحقة من حياته، كونها مضمرة على أهداف تعبوية وجماهيرية أعطت نبعة أبعاده الشخصية المميزة في التشكيل السوري، وقناعاته التي ناضل من أجلها مؤمنا بعدالتها، فكان يعرف بالفلسطيني وهو الدمشقي ابن المزة جار بساتينها وخضرتها، وهو الفتى الذي رسم على المناديل والثياب لأمه التي تشك الخرز على الخط الذي يرسمه الفتى، فكم كان سعيدا حين يرى رسوماته على ثياب النسوة والفتيات، وكم من الوقت قضاه متأملا لزهرة الرمان ولسياج جارهم أبو سالم المطرز بالورد الجوري، وكم سار بين البساتين حاملا التين والماء لصديقه الرسام مروان قصاب باشي الذي كان يتردد على بساتين المزة والربوة، يرسم روعة الظلال والنور والحور وفيء شجر الجوز. هذا المتاح من العالم الدمشقي الفردوسي كفيل بتفتح روح الفنان الشاب وتعشقها للجمال.
بعد تخرجه عُين مدرسا في دير الزور وقد حدثني ذات يوم الراحل الناقد عبد العزيز علون عن هذه الفترة التي تشاركا فيها المسكن في دير الزور وصداقتهما  إذ قال لي: إن شغف نذير نبعة برسم شجر الغُرب ودراسته لتفصيلات هذه الشجرة بداية تحول في رؤية هذا الفنان الذي أنتج العشرات من الرسومات التي تعنى بدراسة شجرة الغُرب، مما منحه قوة الرسام العميقة في المتابعة والتأمل لعناصر المكان وبالتالي وفود عناصر جديدة تتحف مخيلة الفنان الباحث عن مواطن متخيلة تقوم عليها الصورة الجديدة التي يقصد، والمثقلة بمواضع التاريخ والبشر المنتمين لحضارات غابرة، وقد توجت بمعرض للوحات في صالة الفن الحديث العالمي بدمشق “صالة دعدوش”.
ولتجربة الراحل الثرية محطات فنية كل منها على قدر بالغ الأهمية تدل على تجدده الدائم، وعلى يقظة الفنان في شخصه وأسلوب حياته المتفاعل مع محيطه والساعي لخلق الأثر اللائق برسالته، فقد كان دمشقيا عاشقا لوطنه في لوحات العرائس الدمشقية، وكان فدائيا فلسطينيا في أعماله الغرافيكية وكان عرفانيا في تجلياته التي عرضت في غاليري أتاسي أولا ثم عرضت في صالة تجليات في معرض استعادي لأعماله في شهر آذار من عام 2009.
تعتبر لوحات التجليات من الأعمال المشهدية التأملية ولم تكن منسوبة للتجريد المحض وقد قال الراحل في ذلك: أن التجريد ليس تهمة، فهي نتاج تأمله في هذا الوجود بقناعة وحدته وتوحده معه، لذلك كل الكائنات ضمن هذا الفهم متآخية وما النخلة إلا أخت لآدم، وما الصخور إلا بشر وقعت عليهم لعنة ما فحوّلتهم إلى صخور. والرسم هو عملية بحث عن الذات في اللوحة وفي الخيال تكمن الحياة الحقيقية للمخلوقات.
ومن مشاغله في الهوية الثقافية والفنية أن الراحل سعى من خلال مواقف عديدة في عمله كفنان في الصحافة أو منتج للوحة الحامل أنه يصر على لوحة ذات هوية عربية مثقلة بعناصر المكان والطبيعة والرموز التاريخية، وتتعاطف مع الشأن الإنساني للجغرافيا المعاشة، وقد تعتبر “مرحلة التجليات” مقدمة لعنوان المدن المحروقة الذي استفزت الراحل من خلال مجزرة قانا والقصف الأمريكي واجتياح بغداد وقبلها بيروت من قبل الإسرائيليين، وصولا إلى الراهن الدامي.
أكسم طلاع