ثقافة

“العائد” المكسيكي المبهر بقسوته

من المتعارف عليه أن قراءة الرواية في كتاب أفضل بكثير من رؤيتها مجسّدة في عمل سينمائي، ولكن هذه المرة لم يستطع ممثل آخر أن ينافس الممثل ليوناردو دي كابريو، والمخرج أليخاندرو غونزاليس على جائزة الأوسكار في فيلم “العائد” من كتابة مارك ال سميث وايناريتو، والمقتبس جزئياً من رواية تحمل الاسم ذاته لمايكل بنك، حيث تبدو الرواية الحقيقية للوهلة الأولى أفضل بكثير من مشاهدة “العائد” الذي جعل من بطله خارقاً للعادة، فهو لا يموت حتى لو قفز ممتطياً حصانه من أعلى قمة الجبل سقوطاً إلى الهاوية!.

في الواقع، أبهر ثاني مخرج مكسيكي متوّج بالأوسكار العالم بهذا العمل ضعيف الحبكة، قليل الكلام، الكثير من الجمال والقسوة، والصخب المدمي بروعة المكان، فقيمة الفيلم تعتمد على المصاعب، والمعاناة التي يواجهها “غلاس” في رحلته نحو الانتقام، لذلك كان على المخرج أن يبحث عن الأماكن الأكثر قسوة للتصوير فيها، وكان على “دي كابريو” أن يتحمّل اختيارات المخرج التي تخرج عن المألوف كالتصوير في درجات حرارة دون الصفر في جبال كندا والأرجنتين، والتدحرج على السفوح الثلجية، والغوص في أنهار متجمدة، والزحف على أرضية غابات تغمرها الطحالب، وغرس أسنانه في سمكة حية، وأكل لحم نيء لثور، ومشاهد أخرى مشابهة، وكأنه سلّم نفسه للمخرج ليصنع به ما يشاء، فقد تفانى في أدائه للدور، وبالمقابل برع المخرج في ترويض المكان المقفر، والأجواء القاسية جداً، ليستنبط منها مكامن الجمال بمشاهد ساحرة، وأجواء تتلمس قسوتها.
يبدأ الفيلم بمشاهد أشبه بالحلم لـ “غلاس” الذي ينام بأمان مع عائلته، ويصاحب اللقطة صوته وهو يوصي ابنه بالصبر، وعدم الاستسلام مادام يستطيع التنفس، ثم تتخلل المشهد لقطات لكوخه المحترق، وزوجته المقتولة “من الهنود الحمر”، لتظهر عقدة أمريكا الأولى والكبيرة، وهي حربهم مع الهنود الحمر، فالفيلم يتسيّد شريعة الغابة، حيث الجميع يمثّلون دور الصيادين، والطرائد في الوقت ذاته، فحينما يكون الهنود الحمر طرائد الأمريكيين البيض للقضاء عليهم، والاستيلاء على أراضيهم، يكون البيض أنفسهم صيداً سهلاً للهنود في رحلتهم لاصطياد الحيوانات، طمعاً في فرائها، في الوقت الذي يقتل الهنود بعضهم للانتقام لثارات سابقة، كذلك يسقط الصياد “غلاس” بيد الدب بعد أن كان طريدته ليهاجمه، ويكاد أن يقتله لولا دفاع “غلاس” المستميت عن نفسه، ومن حادث هجوم الدب تبدأ قصة الفيلم، فيتحول البطل إلى عالة على المجموعة الهاربة من الهنود الحمر الذين يطاردهم لاعتقادهم أنهم خطفوا ابنة رئيس القبيلة، فيضطرون إلى تركه بمعية ثلاثة صيادين أحدهم ولده للاعتناء به، ولدفنه بطريقة تليق به بعد موته بعد أن يُغري رئيس المجموعة الكابتن “بريدجر” من يبقى إلى جانبه بحصة إضافية من النقود، فيوافق فيتزجيرالد “توم هاردي”، وفتى يدعى بريدجر “ويل بولتر”، لكن فيتزجيرالد يستعجل موت “غلاس” ليدفنه حياً بعد أن يقتل ابنه، ويهرب، لكن “غلاس” ينجو ويقرر أن يعيش لينتقم لولده، فيقاتل من أجل ذلك قتالاً شرساً مع كل الصعاب التي تواجهه، ففكرة الانتقام تعطيه دافعاً مضاعفاً للحياة، لكنه يعزف عن فكرة الانتقام بعد أن يظفر بغريمه ويتركه يسقط بيد الهنود ليغرسوا سكين انتقامهم فيه، فهو يعطيهم فرصة الانتقام من رجل أبيض ليشفي غليله، فولده المغدور “نصف هندي”، وهو يعطي لهؤلاء فرصة الانتقام بدلاً عنه.
لا يتعب “دي كابريو” طيلة الفيلم، ولا يتكلم لأن صوته مقطوع بسبب مخالب غاضبة لأنثى الدب، واعتبر مشهد هجوم هذه الأنثى من أروع المشاهد في الفيلم ا        لتي لا يمكن نسيانها، وتعلق في الذهن لمدة طويلة، فقد كان تنفيذه متقناً جداً، ويبدو أن المخرج أعطى لهذا المشهد الكثير من الجهد والوقت والمال ليكون متقناً إلى هذه الدرجة، وبعيداً عن التحضيرات التي بذلها “دي كابريو” الذي يحمل في سجله تاريخاً مثقلاً بالأداء المتفرد في جميع الحالات، ليجسّد شخصيته، لا تنافسه على الأوسكار إلا شخصية واحدة هي أنثى الدب التي قال عنها الناقد نيكولاس باربر: “ربما سيستحق المصوتون، لمنح جوائز الأوسكار، أن يهاجمهم دب هم أنفسهم، إذا لم يمنحوا هذا الرجل الجائزة”، والحقيقة تقول: لولا أن الممثل دي كابريو حضر في حفلات المهرجانات التي فاز بها، وكان وجهه سالماً من الخدوش، ولم يكن يعرج، لصدّق الجمهور أنه تعرّض فعلاً لهجوم الدب!.
جمان بركات