ثقافة

هل ينصف التاريخ المعري ولو بعد حين؟

من الجميل بعد زمن طويل على رحيل المعري أن يحاول أحد الأدباء إعادة  الاعتبار لتلك الشخصية الفذة التي لم ينصفها التاريخ، هي محاولة شاقة وضع الشاعر والأديب سمير عدنان المطرود نفسه في مواجهتها من خلال نصه المسرحي الذي حمل عنوان: “أنا المعري رهين المحابس”، والتي كانت موضوعاً للندوة النقدية في المركز الثقافي في المزة.

بدأ المطرود الندوة بالحديث عن الظلم الذي لحق بالمعري، فقد علمنا خطأ وخلال المراحل التعليمية المختلفة أنه رهين المحبسين، في حين كان يقول عن نفسه: أراني في الثلاثة من سجوني، والباحث يجدها أكثر من ذلك بكثير، ورأى المطرود الذي بدا في غاية الحماس وهو يطرح وجهة نظره محاولاً أن يؤكدها بالأدلة، أن الكثير ممن درسوا المعري أخذوا خطأ ما قاله د. طه حسين عندما أطلق تلك التسمية على المعري في رسالته الجامعية، والتي أراد من خلالها أن يتعملق على أكتاف هذا الإنسان العظيم، لأن بينهما قاسماً مشتركاً هو فقدان البصر، وكان ياقوت الحموي في معجم الأدباء ممن أساؤوا للمعري أيضاً عندما تناول البعد الفكري لهذا الأديب-كما يؤكد المطرود- عندما اعتبر أن هناك مساجلة تمت بين المعري وهبة الله موسى بن أبي عمران داعي دعاة مصر، وأنها قد انتهت على المساكتة، أي أن داعي الدعاة أسكت المعري، في حين الحقائق تؤكد أن المعري هو من رفض الإجابة عن الرسالة الأخيرة لداعي الدعاة، ورفض أن يبيع ذاته وفكره.
أخيراً أشار المطرود إلى فضل المعري على العالمين العربي والغربي، فهو صاحب نظرية الشك قبل ديكارت بـ 300 عام، ومنه استفاد دانتي مؤلف الكوميديا الإلهية المأخوذة عن رسالة الغفران.

إضافات مهمة
الدراسات النقدية التي تناولت نص الكاتب بدأت مع الشاعرة والناقدة وليدة عينتابي التي فضّلت أن تبدأ مشاركتها بقصيدة جميلة كانت قد كتبتها يوم قطع رأس تمثال المعري على يد الجماعات التكفيرية، وعن النص الذي أنتجه المطرود، والذي قدمه على شكل المونودراما “مسرحية الممثل الوحيد”، رأت عينتابي أنه جاء ملخصاً سلساً ممتعاً لسيرة المعري، ولسمات أدبه، ومعتقداته، وفلسفته، من خلال تكثيف لا يحتمل التفاصيل التي تذهب بتشعباتها العديدة بعيداً عن روح المسرح، وقد جهد المؤلف في استحضار فكر المعري من خلال استنطاق شخصه الذي جسّده على خشبة المسرح بلغته هو، ولغة أهل زمانه، غير أن بعض عباراته التي وردت على لسان المعري بلغة عصرية ابتعدت به عن عصره الذي خلق فيه، وتم به إنتاج هذه التركة الفكرية العملاقة، فكان من شأن تلك المصطلحات المعاصرة أن خفضت قناعتنا بأن المتحدث هو المعري، وليس الكاتب المتخفي وراء النص، غير أن عينتابي أكدت على الإضافة المهمة التي قدمها المطرود، والإضافة الشخصية التي ترينا ما لم يره الآخرون، بما هضمه من هذا الفكر العملاق، وبما تمثّله منه، ليخرج علينا بتلك الإضافة التي تجعل المعري وجهاً لوجه أمام جمهور مختلف الشرائح والمستويات الثقافية.

سلّط الضوء على الوجع
وشبه الشاعر نائل محمد نص المطرود المسرحي بالمرافعة لشخصية المعري وما مر بها منذ لحظة اعتلائها المسرح وحتى النهاية، واعتبرها محاولة ناجحة لتسليط الضوء على أماكن الوجع في نفس المعري، وتقديم حياته وفكره وفلسفته، والمذاهب الفقهية، ومسائل الاختلاف التي سادت في عصره، رغم خطورة اعتمادها على الممثل الواحد، وما يفرضه ذلك من تحديات، ولم يقتصر دور المعري في نص المطرود على الدفاع عن إرثه في عصره فقط، بل تجاوز ذلك إلى أزمنة لاحقة، ومن اللافت في المسرحية الدوائر الزمنية، وتواصل المعري مع اللاحقين من العلماء، والمفكرين، والشعراء، واختراقه اللغات، فهو لم يكتف بالحديث عن ياقوت وطه حسين وديكارت، بل امتد إلى منظّر افرنجي هو “فال ديك”، ليستشهد برأيه، وتأتي أهمية المسرحية من التركيز على الدور الذي يقوم به الفن، وعلى العرض الذي قدم بهذه الطبيعة البصرية الشاقة، وبما فيها من مغامرة، لأن بطلها شخص واحد، لكن الأصوات كثيرة، وهي تتكثف على خشبة المسرح، ما يبشّر بتجاوز كل المطبات والعوائق التي قد تهدد نجاح العمل.
جلال نديم صالح