ثقافة

ريمون بطرس: سورية جرح كبير في القلب والروح والذاكرة

يستمتع برواية القصص، فيحيلك إليها عند أي استفسار أو سؤال، يضحك وهو يروي كيف وجّه الشكر الذي انتظره؛ ضيوف الصفوف الأولى في حفل تكريمه؛ إلى الأيدي التي خطّت الحرف الأول من أبجدية أوغاريت قائلاً: “شكراً لتلك الأيدي التي حفرت في الصخر وطناً اسمه سورية” وهي العبارة التي يقدم فيها أفلامه، ويكمل: “هؤلاء الذين لا نعرف أسماءهم، ولا عناوينهم، لا نعرف حتى قبورهم؛ ولكن: شكراً لهم لأنهم سورية”. أسأل: أكانت هذه الهوية التي نعتز بها مشكلة يوماً مع الآخر؟ يجيب أن نعم، ولكن: “بالنسبة لي فإنه قبل الأحزاب كلها والأيديولوجيات، والأديان كلها السماوية والأرضية، والطوائف والمذاهب والملل، فإن سورية قبل الجميع، ويرتفع صوته وهو يتابع “نحن نعيش في أعظم بلد، ومصلحة هذا البلد قبل الجميع”.
ريمون بطرس المخرج السوري العريق صاحب “الترحال” الذي “يتكرر” والطحالب التي “لا بد من أن نتخلص منها” والذي تشبّع بالفن منذ الصغر على يدي والده والذي ما زالت مساجد وكنائس حماه والعديد من المدن العربية تحتفظ بآثار أزميله، العازف عاشق الموسيقى، والناقد التي امتهن الكتابة فتياً وعاد إليها وقد امتلك اللغة الروسية  بعد عودته من دراسة السينما التي كانت خياره بديلاً عن دراسة علوم الفيزياء، فعمل محرراً في الصحف وفي الإذاعة “مترجماً ومعداً” في القسم الروسي، وبطرس يرى في السينما “أعظم فنون الإبداع البشري” فهي مجمع الفنون التي على المخرج معرفتها جميعاً إن لم يتقنها، ويعرف كيف يوظفها، يهمس: “في فيلم الطحالب؛ لم أضع أي جملة موسيقية، ساعة وأربعين دقيقة اشتغلت فيها على صوت النهر والنواعير، الناس وأغانيهم” باعتزاز يقول: “هو الفيلم الوحيد في سورية بدون مؤلف موسيقي”.

يعتز بأفلامه جميعها، بما فيها الأفلام الوثائقية والقصيرة لكن “الشاهد”، “حبيب قلبي” هو أول فيلم ترعاه المؤسسة العامة للسينما التي يبدو بطرس على وفاق معها، وفيه يجسّد حكاية العاصي الذي يشّكل مع البيت، الكنيسة والجامع، عناصر رئيسية لصياغة جنته السينمائية: “يشهد العاصي أني ما عرفت حتى الآن إلا بعضاً من حكاياه، وإن كُتب لي البقاء على قيد الحياة لسنوات أخرى، ولم يمزّق الخطر القادم جسد العاصي؛ سأتابع رحلته حيث يصل بنا إلى حيث يستريح في دفء البحر” ويردف قائلاً: “لطالما كان هذا البلد على كف عفريت، بلدنا يحيق بها خطر كبير منذ الأزل”.

وبينما يؤمن أن على السينما أن تتصدى لواجباتها فهو يرى أن سينمانا لم تكن “على قد الحمل” وما أنجزته السينما السورية بعد أكثر من خمسين عاماً على تأسيس المؤسسة العامة للسينما، لا يليق ببلد اسمه سورية، ولم يقدمها إلى العالم كما ينبغي: “نحن 8 آلاف عام حضارة، نحن ماري دير الزور، إيبلا إدلب، عمريت طرطوس، أوغاريت اللاذقية، أفاميا حماه وبصرى حوران، تاريخ بأكمله لا يليق به فقط ستون فيلماً أو يزيد”.
يشرف بطرس على بعض من الأعمال التي تنتج من خلال مشروع “منح أفلام الشباب” الذي أطلقته المؤسسة، ويرى فيه فرصة حقيقية للشباب لصناعة أفلام يبشر بعضها بولادة جيل يدعم السينما، بالإضافة إلى ذلك يشارك في التدريس في دورة “دبلوم الإخراج السينمائي” إذ يأمل أنه: “لا بد أن يبرز ولو عدد بسيط منهم، فالمؤسسة بحاجة إلى جيل يصنع سينما أفضل مما صنعناه” فيما يرى أن تطوير المشروع يتطلب تعليم الطلاب تنمية طريقة التفكير، وامتلاك أدوات المهنة العديدة، وأن يكونوا منظَمين ومنظِمين، والأهم امتلاك ثقافة واسعة من التاريخ السوري والعالمي، فهي الذخيرة الأهم للمخرج”.
المبادئ تنسحب على كل الأمور ولذا فهو يرفض بوضوح توجيه أي نقد أو ملاحظة فيما يخص أعمال زملائه في المهنة “أنا أحترم مهنتي وأحترم أعمال الآخرين، وأفضل توجيه النقد إلى صاحب العمل نفسه” بينما وفيما يختص بالمؤسسة فهو يرى أن أي نقد أو ملاحظة على أدائها ومهامها “أمر داخلي يتم الحديث عنه داخل المؤسسة حصراً” وعليه فمن الطبيعي أن يمتنع عن الرد على أي نوع من أنواع النقد التي توجه إليه “الرد يبني سمعة لأصحاب الأقلام الشتّامة”.

في أرشيفه العديد من الأفلام الروائية منها ببصمة باقية حتى اليوم، وإلى جانب “الترحال والطحالب وحسيبة”، يأتي “البدايات وعندما تهب رياح الجنوب”، وأفلام تسجيلية أنتجها لصالح الاتحاد الأوروبي، كان لدمشق حصتها من خلال الفيلم التسجيلي بروح الدراما “ملامح دمشقية” حيث عكس حياة ناسها، ووثّق في نصف ساعة هو زمن الفيلم؛ آلاف السنوات من حضارتها التي لابد يخشى عليها من السرقة والنهب والتشويه.
< وهل يمكن للسينما أن تقبض على الحقيقة، على التاريخ؟ بثقة يجيب أن “الأمر يقع على عاتق المخرج ويتوقف على حجم وخلفية الثقافة التي يتمتع بها”.

اختار ريمون بطرس دائماً أن يكون كاتب حكاياه، ويرى أن تحويل رواية إلى عمل سينمائي يتطلب على الأقل أن تحوز إعجابه، فينقل روح النص فيها كما فعل مع رواية خيري الذهبي “حسيبة” التي حولها إلى فيلم حمل ذات الاسم: “أحببت شخصيتها المتمردة المجاهدة فكانت رسالة لجميع النساء السوريات المتمردات على الواقع دون الخروج على الأصول” بينما جسّد فيلمه “صهيونية عادية” حلمه بالرد على النكسة التي كان واحداً من أبناء جيلها، ويضع فيلمه الأخير “أطويل طريقنا أم يطول” في خانة رسائل الانتماء إلى الوطن سورية “وهي انتمائي الأول” مبتعداً عن الخوض المباشر فيما يجري “من الصعب مواجهة ما يحدث سينمائياً” مفضلاً مقاربة الأمر بعيداً عن التوثيق؛ الذي يملأ الشاشات بشكل لحظي، وعلى السينما أن تقدم للأمر من خلال التحليل وانعكاسه على حياة الناس اليومية، يقول “شاهدت جزءاً من عمل حديث حول الحرب الحالية، وخرجت قبل نهايته وقد أصابني الغضب والتعب”.

ليس لأن صناعة الأفلام هواه يرى أن الناس تفضل مشاهدة الفيلم عوضاً عن قراءته كرواية، لكن الأمر في أن الغالبية لا تعرف كيف تقرأ “نحن كعرب لا نقرأ” وليس الجميع قادر على قراءة حنا مينه وحيدر حيدر وحتى درويش، بينما ينفي وجود ما يدعى بالسينما العربية لانعدام الأسس التي توحدها تحت هذا المسمّى، يوجد سينما تونسية، جزائرية، سورية وسواها لكن يؤمن بأن “اللغة والآمال المشتركة لم توحدنا فكيف نصنع سينما موحدة”.
وفي حين كتب للتلفزيون “قلوب خضراء” الذي جسدته سمر سامي وأخرجه سليم صبري، و” قماشة” الذي أخرجه عبد المسيح نعمة بطولة نجاح العبد الله، لايزال “زواريب مدينة منسية حبيس الأدراج، بالرغم من ذلك؛ يفضل الابتعاد عن خوض تجربة المسلسلات التلفزيونية التي وقع تحت إغرائها غالبية صنّاع السينما  “التلفزيون إلى زوال، السينما أبقى”.
< وماذا عن المشاريع الحالية؟ يقول أنه بصدد التحضير لفيلم روائي لابد لما يجري أن يكون خلفية مجريات الفيلم.

ولأن السؤال الأخير كان “لسورية شو بتتمنى”؟ كان لا بد للصوت أن يختنق، ولا بد لدمعة أن تهرب خفية، فالحزن شديد: “سورية جرح كبير وفظيع، جرح في القلب والروح والذاكرة، والجرح الأكبر هو في كم الخيانات غير المبررة، والتي لم ننتظرها في الداخل قبل الغرباء والأشقاء”. يتابع: “ما حولنا يضج بالخونة والعملاء الذين باعوا أنفسهم ووطنهم بالقليل من الدولارات، أنا مؤمن أن من حق الناس أن تعارض، وأنا معهم، لكن بدون هذا السلاح، وأنا مؤمن أيضاً بحق الناس كل الناس في اختيار إيمانهم الخاص، وهو أمر طبيعي، وحقهم أن نحترم إيمانهم، شرط الابتعاد عن أذية الأوطان والآخرين، فالتنوّر الحقيقي هو في الإقرار بحق الآخرين في إيمانهم” مؤكداً أن التمسك الأعمى بالنص الديني دليل محدودية العقل، وكل النظريات مرفوضة لأنه “على الحياة أن تعطينا المختلف باستمرار، على الحياة أن تكون دائمة الاخضرار”.

بشرى الحكيم