ثقافة

حكاية أم الثقافة

> بكل ما في روحها من لهفة أتت تزفّ لي النبأ الذي انتظرته طويلاً، حيث مرت سنوات طويلة على زواجها ولم ترزق بطفل، إلى أن شاء القدر وحملت، وكانت فرحتها لاتوصف أنها ستصبح أمّاً، وبدأت منذ تلك اللحظة ترسم صورة الطفل الذي سترزق به، وراحت تتخيله بألف شكل وهيئة، وكم استعجلت الأيام أن تمضي ليهّل عليها يوماً تراه أمامها متجسّداً من حلم وحب، وترى طفلها الذي انتظرته سنوات حقيقة متجسدة أمامها، لكن فرحتها التي امتلأ بها قلبها بدّدها كلام الطبيب عندما أخبرها أن هنالك مشكلة يعاني منها جنينها، فلم تصدق الخبر، وظلت تنتظر قدوم طفلها، لكن حالة من الحزن كانت تعتصر روحها وهي تفكر كيف سيكون شكله، وما المشكلة التي يعانيها وليدها.
مرت الأيام وحان موعد الولادة، وكم كانت صدمتها كبيرة عندما جاءتها الممرضة بكتلة لحم تنبض ووضعتها في حضنها، كان الطفل يعاني حالة من التشوه بسبب نقص في نموه، فضمته إلى قلبها ودموعها تنسكب كالمطر عليه، ثم حمدت الله على ما أعطاها، وتجاوزت حزنها، وأخذت تعتني بطفلها وتهدهده بين راحتيها، وتعمل جاهدة أن توفر له كل أسباب الحياة، فتنظفه وتطعمه وتداريه من أي طارئ صحي قد ينتابه.
كانت أول ما تستيقظ تذهب وتطمئن عليه وتقبّله، وفي أحد الصباحات فاجأها انتفاخ في عينيه فأسرعت به إلى المستشفى، وبكل اللهفة والخوف عليه طلبت من الطبيب أن يفحصه، لكن الطبيب ذهل مما رأى، حيث فاجأته لهفتها على طفل يعاني من هذه التشوهات كلها، ويشغلها بعض انتفاخ يعانيه في عينيه، لكن الأم لم تهتم لردة فعل الطبيب وأكدت عليه أن يفحص ابنها، فاستجاب الطبيب لطلبها ، وأعطى الطفل العلاج الذي يحتاجه، وهو يردد في سره “يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش”.
ذهبت الأم إلى منزلها وقضت الوقت كله في رعاية طفلها، حتى طابت عينه، واستمر الحال هكذا، السنوات تمر والأم تتعلق بوليدها أكثر إلى أن جاء اليوم الذي لم تحسب له حساباً، حيث توفي الطفل، وكان الوقع عليها صعب لم تتحمله، فهو رغم كل ما كان يعانيه ملأ عليها حياتها وتعلقت روحها به، لكن الله شاء أن يأخذه إليه وسلمت هي بقضاء الله وقدره، وبقيت على قيد الحب لوليدها الذي غادر حياتها لكنه لم يغادر روحها، وظلت تنثر حبها الذي تنبض به روحها على أطفال مركز الشلل الدماغي الذين وهبت لهم حياتها بعد فقدها لطفلها.
هكذا هي الأم، إنسانة تحمل في روحها عبق الحياة تهديه لأبنائها ليتزنّروا بانطلاقة جديدة في الحياة التي لا تنتظر أحداً، فنلجأ إليها في تعبنا نستمد منها القوة لتجاوز ما يرهقنا، وهي المتعبة بأثقال الحياة، هي الإنسانة الوحيدة التي تشبه روحها وذاتها كثيراً