ثقافة

طفولة تتنفس الحزن في “أحلام صغيرة”

أضاء مهرجان سينما الشباب شمعته الثالثة بدفعة جديدة من الأفلام القصيرة، وكنا  على موعد لمتابعة أفلام بالتأكيد لا تخلو من الهموم والمشاكل والموت والقتل في مجتمع يعيش لحظات عصيبة، لكننا كنا على يقين بأن السينما يمكن أن تحوّل القبح إلى جمال، وأن تُظهر الأشياء الجميلة التي تدخل الفرح والسعادة إلى القلوب لا أن تزيد الهموم وتكدسها فوق بعضها.

“الماء والدم” و”ظلي وأنا”
المفاجأة كانت خلال عرض “الأفلام القصيرة المشاركة على هامش المهرجان” بفيلم مغربي يحمل اسم “الماء والدم” الذي يتحدث عن موروثات مقدسة في النسيج الشعبي العربي، يقارب العمل عنصرين أساسيين في الحياة هما الماء والدم، وبمعنى آخر “الحياة والموت”، واصفاً واقع المجتمع الإسلامي عموماً أنه مليء بالدماء، وقد صور الفيلم هذا الواقع بعدة أمثلة كذبح أضحية العيد، والولادة والزواج، ومن خلال بعض التقاليد الدينية والاجتماعية كالختان والطهور. وبعد الانتهاء من فكرة الدم الأولى انتقل بنا المهرجان إلى حكاية طفل في فيلم “ظلي وأنا” يعاني منذ الصغر من مشكلة في قدمه، والتي انعكست بشكل سلبي على سيرورة حياته، ليتوحد في عالمه الخاص به بعيداً عن الناس، لكن الحقيقة تقول أن الإنسان يحمل في داخله الإرادة القوية والكثير من الشجاعة التي يستطيع من خلالها تحقيق الكثير من أهدافه إن عرف توظيفها بشكل صحيح، وهذا مافعله الطفل عندما رأى أحد الراقصين في إحدى الحدائق، وبدأ يمرن نفسه ويدرب ساقه حتى تعلم الرقص، وبعدها زالت كل مخاوفه وحررته من وحدته، وتغلّب على توحده وكانت بداية لحياة جديدة.
جنين يموت و”يوسف” يموت
وضمن الأفلام المشاركة على هامش المهرجان قدمت المخرجة سالي بسمة فيلماً وثائقياً بعنوان “أرجوك لا تقتلني” يمكن تقسيمه إلى قسمين الأول بصوت جنين في رحم أمه يحكي أمنيته برؤية أخوته وأهله والتعرف على العالم الخارجي، والثاني يتكلم عن مراحل تكوين الجنين وكيفية وضع الإجهاض ضمن الجرم الجزائي، ومن جديد تكون مؤلفة الفيلم ومخرجته بآن واحد قد عبرت عن عملية القتل عن طريق الأطفال كرسالة لإيقاف القتل. بدورها قدمت كريستين شحود فيلمها “بكرا” من بطولة الطفل “عبد الرحيم الحلبي” “يوسف” ليكون نموذجاً للعديد من أطفال سورية الذين خسروا كل شيء في الحرب من عائلة ومدرسة وألعاب، ورغم كل الظروف التي دارت حول “يوسف” الطفل الموهوب في الغناء والتي يستفيد منها في بيع علب المحارم، مازال قادراً على الاحتفاظ بفكرة الحلم منتظراً ما يحمله الغد من جمال، لكن للأسف دمرت الحرب كل الأحلام وأخذت الأطفال معها.
“ورد” و”عبد” و”كرم”
من المعروف أن الأطفال الذين يعانون من اضطراب التوحد يعانون من ضعف في التفاعل الاجتماعي والتواصل، وتكون اهتماماتهم وأنماطهم السلوكية مقيدة ومتكررة، بالإضافة إلى جوانب شائعة أخرى كنمط معين في تناول الطعام، ورغم ذلك تحاول معلمة الطفل “ورد” الآنسة “سمر” في فيلم “ورد” باستمرار وبصعوبة العمل على تدريبه وتلقينه سلوكيات محددة (تعليمه اسمها، وكيفية استخدام المحارم لمسح فمه بعد الأكل) لتهذّب من اضطرابات التوحد لديه، لكن للأسف لم تستطع “سمر” أن ترى نتاج عملها، التي أثمرت عندما قام “ورد” بتطبيق ما تعلمه وذلك بمسح الدم المسال من فمها بعد أن أصابتها قذيفة أودت بحياتها أمام الطفل. وهنا يقدم “ورد” رسالة أن طفل التوحد ليس بالضرورة أن يكون سلبياً فهو عاطفي جداً ولكن يصعب عليه التعبير.
وعند التعبير عن الأحلام يكون المصير مختلفاً، فلم يكن حلم “كرم” في فيلم “أحلام صغيرة” كحلم الطفل “عبد” -في الفيلم الذي يحمل نفس اسم الفتى الصغير- الذي كان يبيع المشروبات الغازية والمياه على بسطة صغيرة ليجمع مبلغ 1500 ليرة ويشتري بها سيارة صغيرة ليلعب بها إخوته في المنزل. “كرم” طالب في الصف الخامس يعيش ضمن عائلة فقيرة مع أمه وأخته المريضة، حلمه بسيط جداً، فهو يتمنى أمنيتين الأولى أن يمتلك حذاء جديداً، أما الثانية فهي متعلقة بالمطر الذي يعتبره الجميع مصدر خير، لكن “كرم” يراه كمأساة، حيث يضطر للف قدميه بأكياس نايلون لكي لا يصل الماء إليهما. في الوقت الذي كاد حلم “كرم” أن يتحقق أصابت إحدى القذائف مدرسته ليفقد ساقه بالكامل، وبذلك يحدث تعديل على الحلم ليلبس الفتى الصغير فردة حذاء واحدة فقط.
في الحقيقة، يرافقنا الحزن في كل الأماكن، لكن التلاعب بمشاعر الناس من خلال تعاطفهم مع الأطفال وكيفية تعاملهم مع ظروفهم الراهنة من دمار وقذائف وتفجيرات أمر ذاع صيته كثيراً، فهل وصلت الأمور أن ننسى كل الهموم ونبقى نلحق الأطفال فقط دون الاكتراث إلى أن هناك الكثير من المشاكل يمكن تسليط الضوء عليها؟؟.
وأخيراً ابتسامة
وكان لنا نصيب في نهاية عرض مجموعة الأفلام أن نحظى بابتسامة خفيفة الظل مع القليل من الضحك، وذلك عند رؤية فيلم “سينما ميكينغ أوف” للمخرج المهند حيدر، الذي يتحدث عن السينما وعن البطانة غير الظاهرة فيها المتضمنة جنوداً مجهولين من مدير الإنتاج والماكييرة وفنيي التصوير والإضاءة والصوت ومنفذي الإنتاج وبقية الفريق، يواجه مخرج العمل مشكلة في تغيّر حالة الطقس، ولا يستطيع بسبب هذا التغيير أن يكمل عمله إلى أن يأتي أحد جنوده ويغير الحالة بأكملها ليغير “من مشهد نهاري إلى مشهد ليلي” وعندها يبدأ حل المشكلة تماماً ويكمل المخرج عمله منجزاً إياه على أكمل وجه.
لنا كلمة
لطالما كانت السينما هي مكان للتنفس، وقاعة تستطيع بصورتها وشاشتها تبديد كل اليأس والحزن الموجود داخل كل شخص، لكن الأمر بدا مختلفاً خلال هذا المهرجان خاصة أن المشاهد الدموية طغت على كل الأماكن والأحاسيس، وجعلتها في المرتبة الأولى وذات أهمية كبيرة في تصوير الواقع الذي نمر فيه، بالإضافة إلى النقطة المشتركة بكل أفلام المجموعة وهي الطفولة والأطفال ومدى تأثيرهم بالأشخاص وتأثرهم بهذا الواقع المرير.
جمان بركات