ثقافة

“الأيروسية” بين الضّرورة والابتذال

أثمّة “أدب أيروسي” ألا يبدو السؤال متناقضاً بعض الشيء؟. نعم لعلّه يبدو كذلك بالمعنى الأخلاقي التقليدي، الذي يربط الحديث في الجنس باللّاأدب، شفاهاً وكتابةً، فكلّ ما يمتّ للجسد بصلةٍ هو عورة ومحرّم وتابو وممنوع التّصريح به، لأنّه يحاكي الغرائز ويوقظ الشّهوات، لذلك يجب أن يبقى في المنطقة المعتمة، الرّطبة من الذهن. لكن أما آن أوان كسر هذه المنظومات المنغلقة وفضح زيف مروّجيها المنغلقين، والحريصين على إبقاء الجسد والروح في الظّلمات بحيث تكثر الظواهر الشاذة التي يحرّضها المكبوت الاجتماعي ويشوّهها دعاة تعميم ثقافة الجهل والتّجهيل.
الإنسان العربي كصورة لمجتمعه، تكاد تكون قضيّة الجنس عموماً، مشكلته الأعقد إلى جانب همومه الاقتصادية والثقافية الأخرى، نتيجة سيطرة الأعراف والعقائد المتخلّفة التي تثقل كاهله وتشوّه روحه ووعيه، وتكبت كلّ ماله علاقة بانفتاحه على الآخر وفهمه، لذلك غدا الخروج من القمقم أشدّ من ضرورة.
سؤال الجنس سيبقى مشوّهاً إذا لم تؤطر هويّته ضمن السّياق الثقافي التربوي الاجتماعي العام، بحيث يكون هاجس المنظومة القيميّة البديلة المنشودة الأساسي، هو كيفيّة الارتقاء بطاقات الشباب العربي وتحريرها وتوجيهها ضمن الحالة الخلاقة المطلوبة منها، وهذه مهمة المناهج التربوية والتّثقيفيّة التي يجب أن تعنى كثيراً بتأسيس أجيال لا تهاب مناقشة محرّماتها، وتفكيك منظوماتها العرفية المتوارثة، وكلّ ما يقضي على إمكاناتها الخلاقة ويقلّص طاقة الفعل الإبداعي لديها، فما المانع من تدريس مادة الثقافة الجنسية في المدارس، كمادة أساسية وأخلاقيّة بنفس الوقت، أليس من الأفضل أن يعرف الكائن، ذاته وجسده ومتطلّبات روحه، ويستعدّ بلا خوف، لتحوّلاته الهرمونيّة والنّفسيّة الطّارئة بإشراف المؤهّلين وأصحاب الاختصاص في هذا المجال؟. من هنا سيكون للأدب الدور الأسمى في إيصال مثل هذه الرّسالة إلى أذهان الناشئة، بحيث تستطيع التغلب على معوقاتها وخجلها، وطاقاتها الهاربة إلى وسائل اللهو والاستهلاك، والإحباطات المختلفة. أقول الأدب مهمّته كبيرة في هذا المجال شرط اللّا إسفاف، والتسطّح والسّعي إلى التكسّب وإيقاظ الغرائز والشّهوات بطريقة سلبية لا تحترم إنسانيّة الكائن.
قديماً اعتقد الإغريق من عبدة “ديونيسيوس” أنّ الجنس هو الطريق الموصل إلى المتعالي. والقدّيس “بولس” اعتقد أنّ الخطيئة الأولى التي أدين بها البشر هي الطريق الموصل إليه. و”فرويد” اعتقد أنّ الدافع الغامض وراء كلّ النشاط البشري وجميع الاضطرابات العقليّة مرجعها الإحباط الجنسي. وعلى صعيد الأدب، دشّنت رواية “عوليس” لجيمس جويس عهداً جديداً في هذا المجال رغم بذاءتها، لكأنّ الكاتب أراد أن يكون بذيئاً ليصدم الناس، حيث يسجّل بروايته العبارات التي لا يراها الناس على جدران المراحيض. كما يقول “كولن ولسن” وأراد بذلك أن يتحدّث الناس عن روايته، وقد شجّعت كتاباته الآخرين على ارتياد هذا المجال /الأدب الجنسي/ الذي مازال يُكبَتُ حتى الآن. وقد وسم النّقاد الرواية بالأهميّة الشّديدة وأنّها تنضحُ بالعبقريّة والأصالة. وتابع “فوكنر” خطا “جويس” الصّادمة ساعياً لضرب قارئه في الصميم، ولعلّها طريقة برأي البعض لتعميق الإحساس بسلبيّات الواقع وفضح فساد القيم والمعايير المزدوجة والفصاميّة التي تحكمه، وتحريض المتلقّي السّلبي لكسر روتين حياته وتمهيد تربته للأفكار الجديدة. ولعلّ ثورة الأدب الجنسي التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي، برواية “لوليتا” لـ “فلاديمير نابكوف” لم تنتهِ. حيث بيعت الرّواية للسائحين الأمريكيين في باريس 1955م. ومحورها يدور حول “رجل بالغ يغوي فتاةٍ قاصر”. هناك الكثير مما يمكن قوله مدحاً بالرّواية وأسلوبها الجيّد، فكاتبها ساخر أصيل، وهي ليس كما رأى بها البعض مجرّد انحراف لرجل في منتصف العمر، بل هي تفضح كلّ الجوع الجنسي الذي يعتبر الذكر أنه لا يستطيع تحصيله بامرأةٍ واحدة. وهي تنويع على كلمات “هنري باريوس” في روايته “الجحيم”: /ليست امرأة التي أريدها، بل كلّ النّساء/. وقد تُركتْ معظم الإشارات والإيحاءات فيها لذكاء المخيّلة، احتراماً لذائقةُ القارئ.
وعلى الصّعيد العربي ربما تكون الدكتورة “نوال السّعداوي” من الرّائدات في كتابة هذا النوع من الأدب، حيث استطاعت اقتحام التابوات الاجتماعيّة بجرأة علميّة وخلفيّة ثقافيّة متطوّرة، محمّلة مواضيعها الأدبيّة الكثير من المضامين التّحرّريّة وحالات القهر الاجتماعي الممارس على المرأة تاريخيّاً. هكذا نرى بأنّ الأدب يستطيع، أن يتنطّح لأعقد المواضيع، ويتخطّى الحدود الحمراء المرسومة من قبل سدنة التّجهيل وحرّاس العقائد الميّتة ليساهم في ثورة القيم الجديدة الدّاعية لتحرير الطّاقات، الشّبابيّة واستثمارها إبداعاً، وإشباعها بكلّ جميل وراقٍ، مع المحافظة على وظيفته الأدبيّة بالدّرجة الأولى. وبشرط اللّاإسفاف، والتكسّب المجاني على حساب القيم والنصّ.
أوس أحمد أسعد