ثقافة

الإعلام المعاكس

أمنية عباس
لا نأتي بجديد حين نتحدث عن الدور الرياديّ الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في بثِّ الوعي بين الناس، وعندما نطرح موضوعة الوعي هنا فإننا لا نحدد نوعاً واحداً من الوعي، فهناك على سبيل المثال وعي صحّي وهناك وعي اجتماعيّ واقتصاديّ.. إلى آخر ما هنالك من أنواع الوعي التي تبدو في مجملها ضرورية لحياة الإنسان في تفاصيلها ويومياتها.. وهي أنواع ينبغي العمل على توفرها جميعاً في الشخصية الإنسانية كي تتجنب هذه الشخصية النقص في تركيبتها ما أمكنها ذلك.
والواقع إن وسائل الإعلام لعبت منذ سنواتها الأولى في بلادنا دوراً محورياً في تكريس حالة من الوعي عند فئات مجتمعنا المختلفة، وكان من الطبيعي أن يتفاوت تأثيرها بين شخص وآخر أو بين فئة وأخرى، تبعاً للحالة الاجتماعية والتعليمية والأخلاقية التي لا يمكن أن تكون موّحدة عند الجميع، فكان من الملاحظ أنه كلما كانت الفئة المستهدَفة من الرسالة الإعلامية جاهلة ومحدودة الثقافة والتعليم، كانت المهمة أصعب والقدرة على بلوغ الهدف أعقد.. والحقيقة إن وسائل إعلامنا وإعلاميينا بذلوا على مدى عشرات السنوات جهوداً جبارة في سبيل الارتقاء بالمستوى الفكري والأخلاقي لعموم المتلقين، إلا أن النتائج غالباً ما أتت محدودة بسبب وجود وسائل تأثير أكثر قوة وقدرة على التغلغل في النفوس من وسائل الإعلام، واعتماد هذه الوسائل المنتشرة في كل زاوية وشارع ومنعطف من أحيائنا على أساليب الترغيب والترهيب، بهدف السيطرة على العقول وإنجاح عملية غسل الدماغ التي أتت بنتائج باهرة ليس أقلها هذه الفوضى العارمة التي تجتاح الأرض العربية.
وفي الوقت الذي تضاعفت فيه المهام الملقاة على عاتق وسائل الإعلام كان من المثير للدهشة أن تتخلى بعض هذه الوسائل وبشكل خاص بعض إذاعاتنا الخاصة ذات الجماهيرية الواسعة عن دورها هذا، ملتحقة بالدور التدميري الذي لعبته وما تزال تلعبه الوسائل المنتشرة في الأحياء والطرقات والمنعطفات المشار إليها، فبتنا نسمع من هذه الإذاعات البرامج التخديرية، التي تعبث بعقل المستمع وتنقله إلى عوالم غير واقعية لا توجد إلا في مخيّلة مقدمي هذه البرامج، الذين يبيعون الوهم للمستمعين بأبخس الأثمان، معتمدين على الجهل الذي وللأسف ما يزال متفشياً عند فئات كثيرة من مجتمعاتنا العربية، هذه البرامج التي تدّعي زوراً وبهتاناً دفاعها عن العقل والفكر فإذا بها تنجرّ وتجرّ معها المستمع إلى عوالم غير مسبوقة من التفكير الغيبيّ، ضاربة بعرض الحائط كل المنجزات العلمية والطبية التي وصل إليها العالم المتحضّر، ناقلة المستمع نحو غياهب الجهل بمختلف مناحيه.
هذه البرامج التي تعتمد على الاتصال الهاتفي من قبل المستمع الباحث عن الخلاص من مشكلة نفسية أو اجتماعية أو مَرضية، فإذا به يواجَه بإجراءات وتفاصيل لو امتلك المتصل ذرّة من عقل لاكتشف زيف وبطلان ما يسمعه من مقدمي البرنامج من ترهات.. إن سعي هذا النوع من البرامج نحو إغراق مجتمعاتنا بمزيد من الجهل والتفكير الغيبيّ، يبدو مكشوفاً اليوم وهي تقف بوعي أو دون وعي إلى جانب الفكر التكفيريّ القادم من خارج الحدود، والذي وجد في هذا النوع من الإعلام خير ظهير له ومساعد في وصوله إلى أهدافه.