ثقافة

المدن المغلقة

نسيبة مطلق

مدننا تهبك وهم الحرية وغواية الانفتاح، شوارع عريضة وزحمة كبيرة  تسير في تيارات مختلفة صاخبة أو بطيئة، لكنها تيارات جليدية فيها أناس مختلفو الوجوه والهيئات يحملون طابعاً واحداً، وجوههم مغلقة على ابتسامة خفيفة يحرصون أشدّ الحرص على ألا تعرف ماذا وراءها، فكشف المشاعر خيانة لمدينة شديدة الحرص على أسرارها، في الشوارع العريضة والكبيرة تحاول التقاط الفواصل والقطب والغرزات التي تسمّى حارات أضيق، لتكتشف أن المدينة تصبح أكثر انفتاحاً لساكنيها كلما ضاق الشارع وتصبح أكثر انغلاقاً عليك لتعرفها، في المدن المغلقة تمتلك حرية جهل الآخرين بك، وتمنحك وهم أن لا أحد يستطيع أن يسلّط سيف القوانين الاجتماعية على رقبتك.. فالمدينة كبيرة، ولا أحد يعرفك ليعيب عليك عدم لباقتك، ولكنها في لحظة واحدة تطبق عليك باب الإهمال لتكتشف أن الأمر ليس اعترافاً بحرية اجتماعية بمقدار أن لا أحد يراك، فأنت غير مرئي، تستطيع أن تكون قديساً وتستطيع أن تكون فاجراً وتستطيع أن تتأرجح بين الاثنين فهذا لا يعنيها بشيء، ولكنه يعني الكثير عندما تدخل في غرزات وقطب الحارات حيث يزداد انغلاقها في وجهك وروحك إن حاولت الدخول في نسيجها، ولن تفتح لك باب أسرارها حتى تأخذ لونها وتقبل كخيط أن تحيكك بإبرتها وعلى طريقتها لتكمل قطعة نسيج الحارة وإلا لفظتك بقسوة، لتتحوّل المدينة الهائلة إلى قرية وقبيلة تسلّط عليك سيف العيب، مع أن كل حارة تصيغ مفهوم عيبها الخاص، وعندما تحاول أن تبحث عن فسحة لتكون بلا أي شيء مهم، كل ما عليك فعله هو الخروج إلى الشوارع العريضة والسوق والأماكن العامة البعيدة، لتتحول إلى غريب مهمل تلتقي بغرباء مهملين، ترتاح للحديث معهم في كرسي باص، حديثاً قد يبدو سخيفاً ولكنه صادق، تستطيع أن تسمع غزلاً ساذجاً من صاحب محل لسيدة لا يعرفها ولكنها تشعر للحظة أنها مهمة وأنها غير مثقلة بأعباء جعلت كتفيها ينحنيان، تستطيع أن تسمع ثرثرة لسيدتين غريبتين عن بعضهما تماماً عن موديلات الثياب وأفضل المحلات دون التفكير بالأسعار، تتذكران فيه للحظة أنه من الطبيعي أن تفكر كأنثى بالثياب والمكياج فقط، تستطيع أن تكون أنت لبعض الوقت، مدننا مغلقة وقاسية وحائرة لأنها مرآة روح عميقة مثقلة بكل أوهام المثالية ونسيت الإنسان خلف قفص مغلق على ذاته.