ثقافة

“مطر حمص” بتوقيع جود سعيد جمـيعـاً فـي حضـن الـوطـن ومـواجـهـة الإرهــاب

لم تكن قسوة كاميرا جود سعيد من وحي خيالاته كسينمائي محترف، وليست مبنية على فنون الغرافيك، كانت حقيقة مدينة حمص القديمة التي خرّبها الإرهابيون وحوّلوا منازلها الدافئة إلى بقايا حجارة تتراكم فوق بعضها، والصليب  كان شاهداً على انتهاك حرمة الموت، وعلى الأذى الذي تعرض له رجال الدين، وينسحب هذا على كل الأبرياء من جميع الأديان والطوائف. قسوة سعيد كانت أشبه بوثيقة تاريخية تؤرخ همجية الإرهاب وإبادته لحمص القديمة، وامتداد التصوير في شوارعها وحاراتها وأزقتها أشبه بالامتداد الزمني لصفحات رواية خطت أسطورة تعذيب المحاصرين وأساليب داعش في القتل والقنص، وبقيت نغمات العود وأغنية “الحبّ كله” شاهداً على جماليات الحياة التي تتحدى الموت والخطف والاغتصاب.
لقطات طويلة
قدّم جود سعيد فيلماً مختلفاً من حيث الأسلوب السينمائي عن أفلامه السابقة التي تناولت الأزمة بفنية مباشرة وبرمزية وإسقاطات يترجمها المتلقي، في “مطر حمص” فابتعد في أغلب المشاهد عن الصورة الجمعية التي كانت واضحة في “بانتظار الخريف” واعتمد على اللقطات الطويلة والمشاهد المتسلسلة للشخوص الأساسيين ضمن مصطلح “الزمكانية” بالتحديد الدقيق لإخراج المدنيين من المدينة في شباط 2014، من شوارعها المهدّمة التي كانت البطل الفعلي والمحور الأساسي للفيلم، الذي امتدت أحداثه عدة أشهر وصولاً إلى ما أطلق عليه المخرج “مطرالسواد” في أيار حينما فجّر فيه قنبلة في ذات المتلقي ألهبت مشاعره، لتتقاطع الأمطار الغزيرة إلى حدّ ما مع أمطار فيلم “بانتظار الخريف” ولتبقى شاهداً على أن الحياة مستمرة في فيلم “مطر حمص”.
الأمر اللافت مشاركة جود سعيد بتمثيل دور أحد زعماء داعش ويبدو بشخصية مغايرة تماماً لشخصيته في فيلم “بانتظار الخريف” إذ جسد دور الضابط الشريف الذي يحارب الفساد، ليصل في نهاية مطر حمص إلى أن جميع الأطراف تلتقي في حضن الوطن تتصدى للإرهاب وتصمم على العودة إلى حمص القديمة وإعادة إعمارها. وإلى أن النبتة التي سقاها الأب إيليا رغم إطلاق القذائف والصواريخ ستنبت.
تمكن المخرج بذكاء من توظيف المشاهد الطويلة لامتداد الصورة البصرية لبقايا الأبنية ورؤية المدينة المدمّرة من الأعلى، لتكون وثيقة تاريخية تسجل وقائع ماحدث مصوراً كل أبعادها وتبعاتها من وجود المفرزة الوحيدة للجيش العربي السوري إلى وجود أحد زعماء داعش وجماعته “أبو عبد الله” إلى جماعة الجنرال، إلى الأب إيليا الذي اختزل كل القيم التي يؤمن بها رجال سورية الشرفاء وعبّر عن المواقف الشجاعة لكل من يضحي بنفسه فداء الوطن. ولم يستثمر المؤثرات الصوتية وتكبير الأصوات وتقاسيم الموسيقا التصويرية في استثارة المشاعر، بل استخدمها بمنطقية مدروسة تتوافق مع مشاهد معينة.
مفارقات قاتلة
أقحمت الأحداث الفجائعية بسخرية واضحة على غرار “الطير يرقص مذبوحاً من الألم” من قبل الأهالي الذين يستقبلون معونات الهلال الأحمر وإطلاق المخرج أغنية “أنا قلبي دليلي” لنرى سلسلة من المفارقات مثل وجود رجال البعثات الدبلوماسية الذين طالبوا بإرسال رجال لإنقاذ الكلب الذي أصابه القناص، وهو ينقذ الطفلة التي تخترق الحاجز وتدخل المدينة القديمة بحثاً عن أختها يارا (لمى الحكيم ) بطلة الفيلم، بينما يرفضون بشدة رجاء الأب (أبو جورج) إنقاذ الرجل المختبئ خلف عامود ساعة حمص ويتعرض للقنص من قبل رجال داعش.

الحب أقوى
جمالية الفيلم بدت بوميض قصة حبّ بين يارا التي مثلت تيار المعارضة الداخلية جاءت لتبحث عن أخيها المجند المفقود فتدخل حارات حمص القديمة، فتلحق بها أختها الصغيرة التي تركض أمام بندقية القناص فيحميها الكلب ويصاب عوضاً عنها، وعند لقائها بأختها تبدأ القصة، تلتقي في الكنيسة مع يوسف (محمد الأحمد) الشاب الذي تم تسريحه من الجيش العربي السوري بعد إصابته بمرض السكري ورعايته لابن أخيه الذي استشهد مع زوجته، ويبقون معاً برعاية الأب إيليا (حسين عباس) الذي يرفض الخروج مع المدنيين ومغادرة الكنيسة، ولأنه يحتفظ بمفاتيح جميع الكنائس، تمضي الأحداث في سجالات وحوارات بين يارا ويوسف تمثل رأي كل طرف، يسخر يوسف مما يسمونه بالربيع العربي في حين تتمسك يارا بآرائها التي تظاهرت من أجلها. بعد انتظار وعذاب وبرد وجوع ومرض يتسلل الحب إلى قلبيهما فيعيشان أجمل الأوقات على تخوم الخراب، وتتسرب لغة الشعر والموسيقا والياسمين إلى المشاهد لتتوج بمقولة الأب إيليا عن الحب بأنه “يخلّد الحياة” في إيماءة بأن الحياة أقوى من الموت وأن الحبّ أقوى من رصاصهم.
رصاص في الكنيسة

في المشاهد الأخيرة تتضح الصورة وتحلّ الألغاز الغامضة وتدخل حارة الجنرال في الأحداث حينما يحتجزون يارا ويوسف والطفلين، لتؤكد يارا عبر استجوابها موقفها من الأخطاء التي أشعلت فتيل الأزمة، لكن اتضح فيما بعد أنها مؤامرة كبرى على سورية، لتتفاقم قسوة الأحداث بهجوم رجال “أبو عبد الله” على حارة الجنرال وإعدام الطيار وابنته بصورة مخيفة، والمشهد الأفظع الذي يعبر عن إرهابهم حينما يرى الابن والده مشنوقاً وبلحظة يقطع أبو عبد الله رأسه بالسيف، لنصل إلى المشهد المؤلم الذي يختزل قصة الفيلم حينما تختبئ يارا ويوسف مع الطفلين في الحفرة ويغلقها الأب إيليا، ليتواجه مع (أبو عبد الله) في حوار يوضح موقف الأب الذي يدافع عن الإنسان والحياة والكنيسة وحرمة الأموات وبين من ينتهك قدسية الكنيسة ويتعدى على الأبرياء ورجال الدين، فيقتل الأب إيليا بطعنة من رجال داعش ورصاص زعيمهم، فتنزلق  قطرات دمه إلى تراب الحفرة التي يختبئون بها،لأنه رفض تسليمهم ريمة التي عادت إلى المنزل لتجد داعش قد قتلت أفراد أسرتها ووالدها المهندس الكيميائي فترمي أخ عبد الله من الشرفة، لكن القنبلة التي فجرها المخرج كانت بتفجير ريمة نفسها مع “أبو عبد الله”، وتفجير رجال المفرزة أنفسهم بشرف قبل أن يصل إليهم رجال داعش، وينتهي الفيلم بمشهد الصمود والتصميم على العودة.
ملده شويكاني