ثقافة

فــــن آســــر

“لئن كانت الحكاية العنب الطازج، فالقصَّة نبيذه المعتق.”
أن تقرأ قصَّة ماتعة، فتقول داخلك: “ليتني كاتبها.”
وتقرِّر في حزم:
ــ سأكتب مثلها، أو أحلى منها.
أن تحفظ اسم صاحبها، وتروح تبحث عن كتابات أخرى تدهشك، وتنطبع في وجدانك تاركة أثراً طيِّباً- صادماً أو مفرحاً لا فرق- فتروح تخبر أصدقاءك، والآخرين، كي يتمتعوا مثلك، يعني أنَّ القصَّة القصيرة بخير.
فُطر الإنسان أن يستمع إلى القصَّة، أو يقرؤها. وإن كنَّا ما حظينا جميعنا بجدّات يحكيْنَ لنا، ويُغنِيْنَ ذاكرتنا بمشتهى سردهن البديعّ!.
ولعلَّ السّر أنَّ الإنسان يشبه الأرض العطشى، يريد أن تُسرَد القصص على مسامعه، كي يكتسب تجربة تنضجه على نحو أكثر عمقاً وإنسانيَّة، فهو المخلوق الباحث أبداً عن المتعة، والدهشة، والمعرفة الضروريَّة في معترك الحياة الصعب.
أذكر أنَّني كنت أحتفظ بالقصَّة الجميلة الَّتي طالعتها، بأن أنسخها من الصحيفة / المجلة، أو أطوي صفحة بدايتها في المجموعة القصصيَّة، وأشير إليها في الفهرس بكلمة رائعة، أو بإشارة صح، لأعاود قراءتها المرّة تلو المرّة بشغف أكبر.
إذاً هي حاجة الإنسان لمعرفة نفسه وغيره من الناس، بعيدين منه أو قريبين، وإدراك سلبياتهم وإيجابياتهم، أحوال عيشهم وظروف حياتهم، ذلك أنَّ المعرفة- حتَّى لو كانت جارحة – مهمَّة لنا وضروريَّة جدَّاً، تهب حياتنا متعة، وتطهِّر نفوسنا من أدرانها الكثيرة الموحشة: حين نرفض، ويزعجنا إلى حدِّ الألم، فعل الكاذب والغشَّاش، القاتل والظالم، ونفرح من أعماقنا، لفعل الكريم والصادق، العادل الرحيم والمحبِّ، فالهدف النبيل من القصَّة أن تجعل مشاعرنا مرهفة، وتعلي داخلنا القيَم الساميَّة الَّتي تدعو إلى الخير والتسامح، وتنبذ الظلم والقسوة والكراهية.
لماذا نقصّ؟
لأنَّ القاصَّ يحمل قلقه الإبداعيَّ معه في كلِّ وقت أو مكان. وقد عبّر عن ذلك الكاتب الجزائري الكبير رشيد بوجدرة بقوله:
“الكتابة أشقى، وأصعب الأعمال على الإطلاق، ذلك أنَّ الموظف أو المدّرس، العامل أو الفلاّح، أو الشغيل عامَّة في أيِّ حرفة، قلما يفكر بها بعد الانتهاء من عمله/ وظيفته، إلاَّ الكاتب دائماً على نار القلق حتَّى ينجز ما لديه، فإن أنهاه عاد ليفكر بغيره، وهكذا دواليك.”
فما يعيشه القاصُّ في حياته الخاصّة والعامّة، إضافة إلى ما يشاهده، ويسمعه، ويقرؤه، يشكِّل همّاً داخله، وهو الحسّاس المرهف كثيراً، ما يوصله إلى درجة التفجُّر إذا لم يكتب، فيكتب كي يرى قارئه الواقع مثلما يراه في عمقه، لا سطحيته البادية، وتأويل أبعد ممَّا يشاهده القارئ العاديُّ، فإذا الجوريَّة الَّتي نراها كلَّ يوم على طريقنا أكثر جمالاً حين تحدِّثنا عن عاشقين يجلسان قربها، وتصغي عادة لحديثهما بشغف، ذات مرَّة كاد الشابُّ يقطفها، ليقدمها لمحبوبته الجميلة، فتمنعه من ذلك، وإذ جرحته شوكة سال دمه، فخجلت الوردة، وأصبح لونها نبيذي أحمر.
هل أضيف غواية القصِّ إلى ما سبق؟
يمارس القاصُّ حرفته، لا أحبذ لفظة مهنته، بأن يكتب حتَّى يمتّع نفسه أوَّلاً، ويتخلَّص من الضغط الجارف على أعصابه، بأن يمسك القلم، ويسطِّر ما يختلج داخله، ويا للسرور عندما ينجز قصّته، لكن بعد قليل يؤرِّقه السؤال من جديد: “هل هي قصَّة ناجحة؟”.
قليلون الَّذين يتجنبون عناء هذا القلق الجميل المعبّر عن حقيقة لا مراء فيها أنَّه لا يوجد نصٌّ كاملٌ، وما من أحد وصل إلى القمّة بعد، فأنا أسعى دائماً للأفضل مهما كتبتُ بشكل جيّد.
وعليه فالقاصُّ إنسان موهوب، يعبّر بوساطة اللغة عن إحساسه المرهف، ويكشف لنا نواح من دواخل الإنسان، وحالات الحياة، لم نكن نراها بالمشاهدة العيانيَّةِ المباشرة، ولا بدَّ من استبصارها بحذاقة.
لا يكفي مجرَّد نزوعك للكتابة كي تصبح قاصَّاً، فكلٌ منّا يستطيع وصف حادثة مرّت به، أو حكي حكاية عن موضوع ما. لكنَّ القصَّ شيء آخر: مهارة بوصف الموقف عبر لغة صحيحة دالَّة، وبثُّ الحياة في الشخصيات، وتسيير الأحداث بطريقة محبوكة مشوِّقة ما يتيح المجال أمام خيالنا للتأويل البارع، واستكشاف المسكوت عنه: “وشيء آخر يجعل القصَّ فنَّاً آسراً لم أكتشفه حتَّى الآن”.
بقي أن أذكر أنَّ الفكرة الباهرة تقتلها اللغة الفقيرة، كما أنَّ الفكرة البسيطة تتألَّق إذا عولجت بلغة فنيَّة. لكن مع ذلك كلِّه لا بدَّ من البحث عن أفكار جديدة غير مطروقة، أو مكرورة، ولا نكتفي بقول جدّنا الجاحظ: “الأفكار مرميَّة على الطريق”.

أيمن الحسن