ثقافة

سـينما الجـريمـة.. مَـن يَخـدمُ مـَن؟

في سلسلته الشهيرة “ألفريد هيتشكوك” التي أنتجها وقدمها للتلفزيون في العام 1955، والتي تحولت فيما بعد إلى “ساعة مع ألفريد هيتشكوك”؛ كان ما إن يطل على الشاشة بوقفته المميزة ونظرته الثاقبة؛ ويحيي المشاهدين بصوت ساخر تشوبه الدعابة السوداء؛ حتى يتسمر الجمهور أمام الشاشات بانتظار ما سيأتي لاحقاً؛ يشدهم الترقب والفضول لما سيجري خلال هذه المدة الزمنية، والمعروف أن كل ما قدّمه المخرج الانكليزي رائد أفلام الإثارة والغموض من أعمال فنية خلال مسيرته الفنية الطويلة اعتبر في عداد “التحف الفنية النادرة” لكل منها تميزها بما تقدم من قصص الجنون البشري، من أعمال سرقة وجرائم احتيال وقتل؛ بينما تشترك كلها في جرعة الإثارة والغموض والتوجس التي تتملك المشاهد طيلة مدة العرض.

هذا الجنون البشري المتنوع من سرقة وقتل وجرائم على تنوعها، شكّل على الدوام مادة دسمة أدت بدورها إلى رواج ونجاح الأعمال التي تناولتها، ودائما نجحت هذه الأعمال بالاستحواذ على عقل الجماهير العريضة بمشاربهم وانتماءاتهم وثقافاتهم المتشعبة؛ ذلك أنها إلى جانب القصة المثيرة لفضولهم الفطري، أو التي تشبع تلقائياً غريزة تقارب حب التلصص لدى الإنسان؛ فإنها تعتبر أشد الأنواع الفنية استفزازاً له؛ بأجواء الغموض التي تحرض وتحفز حواسه بمجملها.

في الخفاء

في بدايات السينما كانت السرية تغلّف عالم هذا النوع، ويسجل تاريخها أن البعض ممن خاضوا غمار هذه التجربة انتهت حياتهم بالقتل لسبب أو لآخر، بينما تسجل السينما الفرنسية إغراقها بالغموض والإثارة، والبحث بما هو أكثر من قصة جريمة أو كشف مرتكبها إلى الغوص في الدوافع النفسية والداخلية من عوامل تدفع إلى تحول الأشخاص إلى مجرمين مرضى هاجسهم وهوسهم القتل، وتركت في هذا المنحى أفلاماً هامة يعود إليها المهتمون بتحولات وتاريخ السينما.
من عالم السينما الإيطالية؛ فيلم تخطى ما قدمته السينما الفرنسية أو سينما هيتشكوك الشهيرة؛ هو فيلم “عام لعين” اعتمد فيه صانعوه التصوير المباشر والحقيقي لواقعة التهام حيوان بري مفترس لضحيته، بالإضافة إلى ملاحقة لصيقة “استقصائية” لوقائع حياة آكلي اللحوم البشرية، من ولائم ضخمة وطقوس مترافقة معها من تقطيع وذبح وسلخ، الغريب أن الفيلم نال من الشهرة والانتشار الكثير؛ وصل حد الثناء على جودة التصوير والإخراج، ما أدى لانتشار مصطلحات جديدة حينها تدور حول تجميل صورة القاتل من نوع “وحش جميل” أو “شيطان محبوب” وسواها.
عموماً وهو الغريب المثير للسخرية أن أفلاماً من هذا النوع غالباً ما نالت الجوائز. فهل ننسى الفيلم المأخوذ عن رواية توماس هاريس تحمل ذات الاسم “صمت الحملان” والسير هوكنز، أو “هانيبال” للبطل نفسه، وسواهما الكثير جميعها أفلاماً حظيت بشهرة وانتشار كبيرين وجوائز كبرى كونها تضمنت الشروط اللازمة من دراما عميقة ومؤثرة وصورة جميلة قادرة على إثارة الدهشة، وإن هي إلا صناعة أتقن ممتهنوها صنعتهم، دون حساب لما تروّج من ثقافة ودروس ربما.

القتل لأجل الصورة

الأمر ليس تأريخاً أو سرداً لمسار “سينما الجريمة” والعنف الذي تتضمنه، فهي كانت وما زالت مادة مشوقة تجتاح ما يعرف بـ “شباك التذاكر”، كما أنها كانت دوماً صورة عن المجتمعات في حينها، تعكس من خلالها ما يجري فيها من مواقف وأحداث وتقلبات سياسية وظروف اجتماعية، وتحولات جوهرية، وجريمة منظمة انتشرت على مساحة العالم المتمدن، حملتها الشاشات الكبيرة والتلفزيون وأفلام الفيديو القصيرة كان صنّاعها من الهواة أو المحترفين، في مجملها أتت على خلفية فكر معين أو جهة محددة أو خدمة للإنسانية برأي هذا أو ذاك.
بعد رواج الفيلم “عام لعين” بما احتوى من مشاهد قتل حقيقية وصورة متقنة، خرجت أصوات لعلها استنكرت الحالة لأنها رأت أن حالة القتل خدمت الصورة والدراما ودفعت الكاتب “دافيد سنيل” لكتابة رواية بوليسية لافتة وغريبة أسماها: “نقتل أم نُصور؟” وهو السؤال الذي لا بد سوف يؤرق ويشغل عقول ووجدان أجيال عديدة قادمة، وربما روايات تحمل عناوين على شاكلة “نقتل كي نصور” وهي أفلام الزمن الحاضر الواقعية التي أغرقتنا بها سيوف وأسلحة القتلة، التي لا بد ستشكل مادة أشد إثارة لأفلام الزمن القادم، ليس توثيقاً ولا تذكيراً، لكنه دعوة لنوع من التأمل أو محاولة جدية لقراءة مركّزة لهذا الزمن الخارج عن المنطق والفهم.

بشرى الحكيم