ثقافة

المبدع محمود عجّان.. لا يتأخر الوقت على التذكّر

في واحدة من المقابلات النادرة معه قال: “علينا أن نتلمس الجمال لا بأطراف الأصابع، بل بأنامل الروح والقلب والعقل؛ لكي ندرك بأننا على أرض أنجبت أعظم الحضارات، ولا يمكن لأبنائها اليوم أن يكونوا أحفاداً عاقين لتراثهم وإرثهم الإبداعي”.
وبالرغم من مرور أيام على الذكرى؛ إلا أن الوقت لا يتأخر أبداً على التذكر؛ وبالأخص حين يتعلق الأمر بأعلام كبار مثل محمود عجّان وعمالقة في كل المجالات، تركوا من الإرث ما يشكل بمرور هذا الوقت تراثاً تنهل منه الأجيال القادمة.
الموسيقار عجّان واحد من أعلام مدينته؛ درّة الساحل السوري اللاذقية؛ حيث ولد وعاش بعيداً عن ضوضاء الشهرة ووسائل الإعلام، مكرساً حياته بالكامل للبحث والتأليف الموسيقي.
في سن مبكرة حيث لم تتجاوز الخامسة عشرة، بدأ مسيرته الإبداعية في محيط عائلي يهتم بالموسيقى والفنون، حيث كانت أولى محاولاته في التأليف الموسيقي معتمداً على موهبة خاصة وشغف كبير بالموسيقى دفعه للتعلم والاستزادة عبر السماع والقراءة والبحث الخاص، وأشعلتها تلك الفرصة النادرة التي اقتنصها بالعزف أمام أمير الكمان “سامي الشوا” الذي لفتته تلك الموهبة النادرة ونالت استحسانه، ليتابع فيما بعد العمل وتطوير نفسه ويستحق بجدارة أن يسمى أول مؤلف موسيقي وقارئ نوتة في مدينته؛ ويجيد العزف ببراعة شديدة على آلتي العود والكمان.
بدايات مبكرة
سجل أول حضور حقيقي له بالمشاركة في تأليف موسيقى وألحان فيلم “مرفأ اللاذقية” الذي أنتجته شركة “منيرفا فيلم” في حينها، وفي سن التاسعة عشرة عمل مع مجموعة من أقرانه الموهوبين والمهتمين بالموسيقى على تأسيس نادي الموسيقى في اللاذقية، الذي كان له الأثر الكبير في إحياء نهضة فنية موسيقية في محيطه.
وبينما شارك بدور تمثيلي صغير في فيلم “عمالقة البحار”، إلا أن اهتمامه الأول كان منصباً على الموسيقى الكلاسيكية؛ العربية والغربية على السواء؛ نالت الأولى منها الحيز الأكبر من اهتماماته على اعتبار منه بأنها الأكثر نضجاً بين موسيقا الشعوب الشرقية، هذا الاهتمام الذي أهلّه لترك بصمته الخاصة والمميزة في هذا المجال في محافل الموسيقى العربية حيث كانت له مشاركاته الدائمة في المهرجانات، ومن على منابرها على اختلافها، ألقى محاضراته ودراساته العديدة، وعمل في مجال تدريس الموسيقى والرسم، بينما حظي صالونه الأدبي والموسيقي الذي أقامه في منزله بنشاط ، وشارك فيه العديد من الفنانين والمهتمين بالأدب والموسيقى استمر على مدى خمسين عاماً، بالإضافة إلى المشاركة الفعالة في النشاط المدرسي عبر تشكيله للعديد من الفرق الموسيقية والغنائية التي حصدت بالإضافة إلى الاستحسان العديد من الجوائز والتكريمات.
قارئ النوتة
في العام 1957 تمت دعوته للمشاركة في مهرجان الشبيبة العالمي في موسكو، على اعتباره أول قارئ نوتة ومؤلف موسيقي في اللاذقية، وفي معهد تشايكوفسكي أكبر المعاهد الموسيقية الروسية وبمناسبة ذكرى الفيلسوف المعري، قدم مقطوعته الخاصة بعنوان “من وحي أبي علاء” على آلة الكمان التي نالت اهتمام المختصين والإعلام ووساماً خاصاً تكريماً لإبداعه.
في التأليف الموسيقي الذي بدأه مبكراً؛ له مؤلفات عديدة أكثر من أن تحصى عمل في أغلبها على القوالب الموسيقية التراثية، اهتم بالتأليف وتلحين الأناشيد الوطنية والقومية، وفي أرشيفه أكثر من 300 توشيح وعشرات الأدوار، وله العديد من المقطوعات الموسيقية بالإضافة إلى مسرحية غنائية.
وبالرغم من أن جلّ اهتمامه انصب على التأليف الموسيقي والتدريس، إلا أن الأمر لم يبعده عن الاهتمام بنشر التراث وتوثيقه عبر مطبوعات، إذ نشر في العام 1990 دراسة هامة في الدور والصيغ الآلية العربية في كتابه الأول” تراثنا الموسيقي” وفي العام 2002  أصدر كتابه” الليل والعين في التراث الموسيقي والشعري”، بالإضافة إلى كتاب في ” الإيقاع وفلسفته” وحول “الموسيقى النظرية” وكتاب “الموسيقى العربية.. دراسة” التي عرض فيها لتاريخ وطبيعة تطور الموسيقى في المنطقة العربية، وله دراسات في ” الإيقاع والموليا” و”الدور والموشحة” بالإضافة إلى بحث هام خص فيه فاصل “اسق العطاش” بدراسة مستفيضة، وسواها العديد من الدراسات التي لم تنشر في كتب خاصة ومحاضرات جميعها تصب في منحى “نشر الموسيقى والثقافة الفنية” اهتمامه الأول والذي عمل عليه دائماً.
عنه يقول الباحث والمؤرخ جبرائيل سعادة: “عندما يبدأ حديث الموسيقا تراه وكأنه يغرف من بحر لا يتوقف، ولا يستريح ولا يهادن في علم يعرفه تمام المعرفة”. ويتابع معرفاً بالموسسيقي حيث حرص على السمو بنفسه وفنه بعيداً عن ضجيج الشهرة وغواية الملاهي: “الموسيقا بنظره لها محراب خاص لا يجوز لها أن تغادره إلا لمعابد الذين يتذوقونها ويفهمونها ويجيدون الاستماع إليها، وهو في هذا يفرق بين الفن الموسيقي الراقي، والآخر الذي لا يحمل من الفن سوى الاسم”.
ريادة ونهضة
المعروف في تاريخ الشعوب أن لكل ريادة أو نهضة قادتها الذين يتنكبون عناء حمل المشاعل الأولى، وربما كان لمحمود عجان شرف حمل مشعل الريادة في مدينته اللاذقية الأمر الذي استحق عليه أوسمة التكريم أكثر من مرة من قبل وزارة الثقافة، التي منحته أول ميدالية في العام /1959/ وأُخرى في العام 1969 وقامت بتصوير فيلم وثائقي عن حياته وأعماله الموسيقية في العام 1979، بينما أطلقت اسمه على معهدها الموسيقي في مدينة اللاذقية، يمكن أن تضاف لمحمود عجان ميزة والتي عجز عنها الكثيرون غيره في العمل بصمت بعيداً عن الأضواء والشهرة، فلم يسمح بتسجيل مقطوعاته معولاً على أعماله المنشورة من بحوث ومنشورات في مساعدة المهتمين بالموسيقى، بينما يستحق ما ينام من إرث له في مكتبات المحبين والمهتمين والأصدقاء، أن يجد من يكشف الغطاء عنه لإكمال رسالته النبيلة في العمل على تطوير فنون الموسيقى ونشر التراث قبل أن يأكله غبار النسيان.
بشرى الحكيم