ثقافة

الحروفية.. اليوم؟!

أكسم طلاع

تعتبر الحروفية الجديدة اتجاهاً فنياً تشكيلياً متداخلاً مع الاتجاهات التشكيلية الأخرى، لكنه مستقل عنها بميزة الهوية، ونبرة المعنى الذي يتقدم بالتوازي مع المبنى، وصياغاته الصارمة، وقد ظهرت بفعل التغيير والتجاوز الثقافي مثلما ظهرت اتجاهات أدبية وفنية أخرى في سياق الثقافة الواسعة، خصوصاً في بلاد العرب، وسميت بالحروفية العربية لاعتمادها بالأساس على الحرف العربي، والتراث البصري الكتابي، وتأتي قيمة الحرف العربي في هذا الاتجاه باعتباره أساساً بصرياً للعمل الفني، واللوحة التشكيلية، مثلما هو قيمة فنية بحد ذاته، وحامل للمعرفة والتواصل بوظيفته الرمزية التي تشكّلت من خلال تراكم معرفي في آلية التعبير والتواصل الإشاري والصوتي، كما تواكب الحروفية العربية التغييرات والثقافات الوافدة، وتتفاعل معها في عالم الهوية الموحدة الجامعة للعديد من الروافد الفنية المفتوحة على التجديد والابتكار في مناخ هذه الهوية، وتجلياتها في العمارة، والفنون، والأدب، كما أنها اتجاه غير مستقل عن حركة التطور في الفكر، والفلسفة، والفنون، والسياسة، وغير بعيدة عن مظاهر المدنية، وعن تجليات تتمظهر في النصوص العرفانية، وسلوكيات المتصوفين، والحركات الثقافية والأدبية، وقد يرميها البعض في مساحات الفكر الديني، وفنون الكتابة العربية، وبالتحديد تجليات الخط العربي لما له من أهمية في الحضارة الإسلامية باعتباره أهم معالم الفنون الإسلامية، وأحد المعالم الجديدة للفنون التي تهتم بفنون الكتابة والعمليات الحركية والغرافيكية البصرية الحديثة التي تنتشر على مساحات ثقافية وجغرافية واسعة في هذا العالم، وتمتاز بثقل كمي في الحياة التشكيلية المعاصرة، وأضحت على قدرة من التنوع والاختلاف بين فنان وآخر، وبلد وآخر، وللمنطقة العربية حصتها الأهم في ولادة هذا الاتجاه، وبالأخص بلاد الشام التي شهدت المحاولات الأولى لهذه الحركات التشكيلية الموثقة من أربعينيات القرن الماضي، استناداً إلى الأسماء الفنية العاملة في هذا الحقل، وعلى الموجود المادي من لوحات، وأعمال أنتجت في العراق وسورية، لكن هذا التصنيف يبقى قاصراً في حدود النزعة السياسية التي تحكم ثقافة الإقليم بنزعاته القومية، والعقائدية، قد يصل أحياناً إلى ارتكاب مخاطر المجازفة ببعض الجماليات لصالح حجة الجمال والوظيفة، وقصور الثقافة.
وقد صنف البعض هذه الحركات الفنية على أساس أنها تمثّل عالماً تشكيلياً يحكمه منطق داخلي روحاني، والبعض الآخر اعتبره افتعالاً تراثياً يستجدي التعاطف، ويتوسد الماضي دون المشاركة في خلق متغيرات جديدة على صعيد الفنون البصرية، وتطوير أدائها لما تتسم به الحروف من عميق الدلالة والتأثير.
لكن التجارب التشكيلية العربية الجديدة التي استفادت من الحرف العربي لم تصل أبعد ما وصل إليه فن الخط العربي من حضور، وبلاغة فنية وعقلية محكومة بمنطق هندسي صارم، كما لم يصل أولئك الفنانون إلى فضاء خاص جديد يمكن أن نطلق عليه اسم فن العروبة، أو فن العرب الجديد، دون المرور من بوابة الكتابة والحرف وتشكيلاته ودلالاته الأدبية واللغوية، فضلاً عن دلالاته التشكيلية العميقة التي يدّعيها أولئك التائهون من مدعي الفن، والمتورطين بشعارات شوفينية يرفعونها بغية ترويج فنون لا يمكن أن يقال عن بعضها إلا أنها مسوخ مشوهة عن تجارب الآخرين.
ومثلما الشعر كذلك الخط، كلاهما فن العرب بامتياز، فهل يستطيع أهل الحداثة من الفنانين العرب أن يواكبوا ويجددوا دون ضياع؟!.