ثقافة

في أيام القصة القصيرة السورية الصالح: المؤتلف بين النصوص هو الجرح السوري النازف

“مغامرة القصّ محكياً ودلالياً” كانت الملمح الأقوى في القراءة النقدية للدكتور نضال الصالح -رئيس اتحاد الكتّاب العرب في افتتاح أيام القصة القصيرة السورية في مكتبة الأسد على مدى يومين وعبْر أربع جلسات، والتي جمعت الأدباء وأعلام القصة السورية، منهم أنيسة عبود وعدنان كنفاني ود.حسن حميد ومالك صقور وعماد نداف، وتزامنت مع أيام معرض الكتاب، ولعلها الفعالية الأكثر حضوراً والأكثر تألقاً ومتابعة لأنها الفنّ الأقرب إلى المتلقي.
اتخذت الجلسات طابع الإصغاء إلى القراءات القصصية والتعرّف إلى أحدث نتاجات القاصين مما ضيّق المساحة للقراءة النقدية، والتي برأيي يجب أن يكون لها الحضور الأكبر لأهمية الآراء النقدية في إغناء المشهد القصصي. وفي الجلسة الأولى ترأس الجلسة القاص رياض طبرة والقراءة النقدية كانت للدكتور نضال الصالح، وقد تنوعت الأساليب السردية واللغة القصصية بين الرمزية والدلالية والواقعية، ممتزجة بفنية الاسترجاع والتمازج بين زمنين، والتخيّلات والتماهي بين الحلم والحقيقة.

الانتقالات السردية
لم يبتعد القاص الوز عن المتن الحكائي القصصي الذي يتبناه في مواجهة الإرهاب برمزية وفنية مباشرة كما في مجموعته السابقة “صباح الياسمين صباح الغاردينيا”، لكن اللافت في قصته الانتقالات السردية والحوارية بين عوالم افتراضية وواقعية، ليباغت الحاضرين بنهاية تكشف ستار الغموض عن خطوط قصته “خمسة مشاهد سردية” التي اتخذت أسلوب السرد من خلال وحدات سردية اختُتمت بدوي انفجار يحطم كل شيء، واعتمد على الاقتباس من آيات القرآن الكريم في تقريب مفهوم التشاركية بين الأغنياء والفقراء، ليصل إلى حماية الذات وصون ثروات الوطن “إن ثرواتنا لنا، لأمتنا ولنا تقديم شيء للآخرين بيعاً قطعاً، ولامانع من استخراج ثروات الآخرين نأخذ حقنا منها وما يتبقى نعطيه” وتتسم القصة أيضاً بالبعد الاجتماعي لتحليل واقع المرأة في بلادنا معتمداً على تقنية الحوار بين السيد ومساعده.

التماهي بين زمنين
ومنذ اللحظة الأولى وضعنا القاص حسن م يوسف على تماس مباشر بالحدث في قصة “بحار غريب” ليبحر في أمواج السرد كأحداث القصة التي تدور داخل سفينة ضخمة تبحر من ميناء كراكاس إلى ميناء بوسطن في لحظات مرض القبطان السوري وشعوره بالغثيان، لتبدأ فنية الاسترجاع لتخيلات عاطفية “وهذه ماريا تمسك يدي وتشدني إلى عالم الأحياء”، والتماهي بين الحاضر والماضي، فيسيطر صوت السارد البطل القبطان السوري على لغة السرد بضمير الغائب حيناً، والمتكلم حيناً آخر، وبين الحواريات التي تعزز الانتماء السوري من خلال حوار بين البحار السوري والأمريكي “رأس شمرا عاصمة مملكة أوغاريت قصر ملكها بحجم البيت الأبيض عندكم، والمكتبة التي اكتُشفت، فيها أعداد كبيرة من الرقم الفخارية”. وتختزل الحضارة السورية منذ أبجدية أوغاريت من خلال ثنايا قصة عاطفية بين ماريا المرشدة السياحية في اليونان وخالد وتعارفهما “نحن الإغريق أخذنا ترتيبنا الأبجدي منكم”.

المتتاليات الشعرية
في حين هيمنت لغة قريبة من المتتاليات الشعرية على نصّ الأديب مالك صقور المعنون بـ “الطعن وسط المعركة” في مقدمة القصة تشدّ المتلقي إلى خطر ما سيقع “ثمة شيء سيشتعل، ثمة شيء سيحترق، ثمة شيء سينفجر” ومضى بتسلسل السياق السردي الحكائي ليضعنا إزاء تفاصيل خيانة الزوج وولديه للوطن بانضمامهم إلى جبهة النصرة من خلال تعاقب الأحداث، ليشتد الصراع الداخلي للزوجة بين الإبلاغ عنهم أو التستر عليهم لرابط الزوجية والأمومة، وحينما تحسم أمرها تقع المعركة، ويستمد القاص أحداث قصته مما حدث في بانياس، الأمر الهام هو التوقف عند موقفين متناقضين يعكسا ما حدث فعلاً في الشارع السوري، إضافة إلى دقة الوصف للوقائع لاسيما القناص الذي يقطن في داخل المنزل الذي لايشك به أحد، ويقتل كل يوم أحد أفراد الكتيبة.. إلى حفر النفق الذي يؤدي إلى البيت البلاستيكي إلى موضع جبهة النصرة، “حاولت جاهدة أن تقنع زوجها وولديها بأنهم يلعبون بالنار، ومن يلعب بالنار سيحترق”.

دفء المفردات
في القسم الأخير من الجلسة شاركت د. فلك حصرية بقصة تميزت بدفء مفرداتها وقربها من الذات وتضمينها مفردات أغنية فيروز “وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان”، ضمن منظومة سردية شعرية للأم التي يتسرب العمر من أصابعها ويكبر أولادها الثلاثة “عشر سنوات وأعمار الصغار تتقدم وعمرها يجري وكم حاولت أن تجعله يتأنى ويخفف من سرعته، لكن العمر هو العمر هو الماء الذي يتسرب من بين الأصابع” لتقترب بفنية مباشرة من الأحداث الدامية التي عصفت بحياتنا وطالت الأطفال الأبرياء، لتلتهم شظايا القذيفة الأجساد الغضة. واقتربت أكثر القاصة نهلة السوسو من يومياتنا في قصتها “أكبادنا” التي باحت فيها بعذاب أم تفقد ولدها المجند برصاصة غادرة بمفردات موجعة تعبّر عن آلام الفقد “إنه في الرضوان وهو يرانا وينتظرنا هناك هات ضمّة الريحان لتصبّحي عليه، وخذي إبريق الماء لنسقي شجيرة الورد عند قدميه”، وتناولت قصة يوسف الأبطح معاناة المواطن السوري في قصته “شعرة معاوية”.

د. الصالح المؤتلف والمختلف
بدأ د.نضال الصالح قراءته النقدية بطرح مفهوم المؤتلف والمختلف بين هذه النصوص المقروءة، ليتوصل إلى أن المؤتلف فيما بينها هو الجرح السوري النازف، فعبّر كل قاص بطريقة سردية مختلفة عن الآخر، وأوضح أن ثمة مختلفات كثيرة بين نصّ وآخر، وعلى الرغم من المؤتلف المشترك السردي الحكائي وعلى نحو أدق المشترك الدلالي، فكل نصّ يتميز بشيء، فنصّ د.هزوان الوز يشرك القارئ في مغامرة القصّ نفسها أي إن النصّ لايسلّم نفسه إلى القارئ على نحو يسير، بل يشاركه في مغامرة القصّ محكياً ودلالياً، وعليه أن يعيد ترتيب النصّ حكاية، ومن ثم يستجمع الوحدات السردية التي قُرئت، لنقول إنه نصّ حداثي بامتياز. ورأى د. الصالح بأن ما يَميز نصّ حسن م يوسف أنه مشغول بأصابع صائغ ماهر يعرف تماماً كيف يقود جملته السردية، ما من فائض سردي في النص، ولو أسقطنا جملة واحدة منه لاختل النص تماماً، ليستعيد مقولة الناقد الفرنسي رولان بارت “نصّ لايعرف الضوضاء” ويؤكد بأنه ليس في نصّ حسن م يوسف ضوضاء، وما من وحدة سردية ضائعة، وتابع د. الصالح رؤيته النقدية لنصّ مالك صقور فبيّن أنه مشغول بمحاولة الحفر فيما تعرضت له سورية وتتعرض له من طعنات على من قيل إنهم من أبناء الوطن. وتوقف عند ملاحظة هامة بأنه قدم لنا صورتين متناقضتين للهمّ السوري، ولم يكتف بتقديم صورة واحدة، إذ قدم السوري بوجهين متناقضين، السوري الذي ارتضى لنفسه أن يخون وطنه، والسورية التي آثرت أن تخلص لوطنها.
ملده شويكاني