ثقافة

ســــاحة وســـلاح..

بشرى الحكيم

في أماسي أيام مضت؛ حين كانت هذه الأرض تتنفس هواءها بهدوء تام.. كان بإمكان أبنائها “الأحياء منهم بالطبع” بعيداً عن أولئك الذين يعيشون أيامهم يجترون العمر بينما العقل منهم غائب، كان للواحد من أولئك الأحياء أن يستمتع بالجلوس أمام شاشاته الوطنية في أماسي الخميس الطويلة، وسواها ومتابعة ما هب ودب باسترخاء تام، وكان له أن يغفو أثناءها على مهل؛ غير معني بما اختير له من تفاهات وسخف.

لكن والأرض تكاد لا تلتقط أنفاسها، بينما أضحت صفيحاً ملتهباً لحرب يعد عمرها بالسنوات بكل عنجهية وصلف، وبينما العالم يلهث خلف كل وسيلة إضافية لمدها بالوقود، لا يجوز لأبناء الحياة أن يكافؤوا بما لا يليق بهم من “صراخ وضجيج فني” على فضائية وطنية، مادة بلغت من التفاهة والاستهتار بمشاعر مئات العائلات وآلاف القلوب التي أمسكت عن دقاتها، مترقبة حرّاس الوطن يقفون خلف عُدّتهم؛ بانتظار ساعة الصفر لبدء معركة مصيرية، وتحرير التراب من جرائم ومذابح الإرهاب.
لا يجوز، بينما فضائيات أخرى تعلم وتعرف وقع الحدث؛ تتصدى لصفع العالم الذي يراقب بعين الذئب، فتضعه أمام حقيقة المجازر التي فاقت ببشاعتها كل خيال مريض، من قتل وذبح وبقر للبطون، وتغييب لعشرات العائلات التي ما زالت مصائرها في علم الغيب حتى اليوم.
ترى هل غاب عن الذهن ما لهذه الوسيلة الإعلامية من تأثير؛ لا يمكن له أن يكون طارئاً أو آنياً على المتلقي، بل هو؛ إن أُحسن استخدامه يمتلك من القدرة على استقطاب كل بلاغة وفهم ووعي ممكن أو كامن لدى مشاهدها أنّى كانت خلفيته؛ لديه القدرة على استقطاب كل شرائح المجتمع متنورين ومثقفين فاعلين على اختلاف انتماءاتهم؛ وحتى أولئك المحرومين أبسط شروط الحياة من ساكني الأرصفة ومرتادي الشوارع، على تنوع مشاربهم. أيضاً وبالمقابل؛ يمتلك القدرة على نسف كل التوقعات الجميلة التي نراهن عليها؛ في حال الاستخدام العفوي غير المدروس.
الحروب وبعيداً عن الساحات الحقيقية والتقليدية، ومنذ فترة ليست بالقصيرة أصبحت تمتلك ساحات وميادين تخاض وتدار من خلالها المعارك، وليس بخافِ على أحد، أنها، تلك الشاشات الصغيرة الفضائية منها أو تلك الأرضية على محدودية تأثيرها، والفضائيات التي لعبت دورها الكبير خلال حرب الخليج وحرب العراق وكل الحروب الدائرة على امتداد ساحاتها، مازالت تفعل فعلها في كل الصدامات التي تحدث بين الدول أو في المجتمعات الواحدة؛ الكبيرة منها والصغيرة. ذلك من خلال نقل الخبر الذي يخدم من يقف خلفه، أو إيصال الرسائل وتوضيح المواقف؛ وردود الأفعال، بشكل موّجه ومدروس؛ من قبل كوادر متخصصة في العمل على تحقيق التوقعات من كل مادة إعلامية تظهر على شاشاتها؛ والتأثير المطلوب على الرأي العام سواء كان عالمياً أو ما ارتبط بالمحلي منه “هل تنقصنا تلك الكوادر ونحن أرض العقول النيرة والمواهب”.
الأمر بالطبع لا يتعلق بالحالة الميدانية للحدث ذاته، بل يتعداها إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي والحالة الثقافية التي هي بمجملها؛عدّة أساسية من عتاد الحروب والمجابهات المفصلية.
في حرب الخليج انفردت قناة “سي إن إن” الأميركية بتغطية الحرب وكل ما يتعلق بحيثيات الحدث الكبير، إلى جانب “إي بي سي” و”بي ي سي” البريطانية، بينما غابت بقية الفضائيات بشكل شبه كامل، ما مكنّها بما امتلكت من تأثير؛ على إحداث الفرق في الرأي العام حتى العربي منه، من خلال برامج مدروسة وممنهجة؛ حتى فيما يتعلق ببرامج التسلية والترفيه.
اليوم والنداءات تعلو تعباً من قنوات “هز الخصر” و”برامج تفسير الأحلام” وبيعها، وقنوات تخصصت في تأجيج الصراعات الدينية والطائفية، وتنبذ وتستعدي الآخر لمجرد أنه “آخر” وفي أتون حرب يحشد لها العدو كل ما ملكت يمناه ويسراه من أسلحة؛ لا يقبل العقل ونحن أرض أعطت العالم شرارات الاختراعات الأولى، والضوابط المجتمعية الأساسية، أن نرمي بين الأيدي المهملة أو العفوية البلهاء؛ سلاحاً بات اللعبة المفضلة في أيدي لاعبين محترفين، وتعمل كبريات الدول من خلالها على تحريك هذا العالم.