ثقافة

أثر اللسانيات في الدرس اللغوي الحديث

لطالما كانت اللسانيات عامل تجديد وإغناء، ولذلك استبعد كلّ ما يخالف هذا القصد من مبالغات أو صراعات لا تنطوي على الفائدة، وهذا ما أكده الأستاذ الدكتور أحمد محمد قدّور في محاضرته بعنوان “أثر اللسانيات في الدرس اللغوي الحديث” في مجمع اللغة العربية، منوهاً أن البحث يجب أن يكون بعيداً عن التحيّز، لأنّ العلم هو حقائق موضوعية لها أدوات ومنهجية تضبطها من غير أن تكون المواقف الخاصة مؤثرة فيها. وفي الحقيقة، تعدّدت المواقف المؤيدة أو الرافضة لدخول اللسانيات في درسنا اللغوي، واعتمدت جملة من المعايير التي تقوم على الإفادة النفعية من اللسانيات بوصفها أداة بحث، وموضوعاً جديداً من غير أن نكون خاضعين لأيّ توجّه معرفي ينحاز إلى المركزية الأوربية، ومن أبرز تلك المعايير التي ذكرها قدور:
ضرورة التعرّف الصحيح على علوم اللسانيات من مصادرها العلمية الدقيقة، وتوظيف مناهجها وما نتج عنها في علومنا الحديثة بالقدر الملائم، بالإضافة إلى تقديم ابتكارات علمائنا القدامى لرفد مسيرة اللسانيات وإشهار أعمال هؤلاء العلماء بالوسائل العلمية والإعلامية، واستعارة بعض الأطر الإبتسيمولوجية من أجل إنشاء علوم لغوية جديدة تستمدّ معطياتها من الدرس القديم والجديد معاً.

اللسانيات والعلوم اللغوية
وتوقف د. قدور عند الفروق بين اللسانيات وعلومنا اللغوية المعروفة لكي يكون البحث واضح المعالم قبل أن يصل إلى أثر اللسانيات المقصود، وفي البداية بيّن أن اللسانيات علم أوربي حديث ترجع بدايته إلى القرن التاسع عشر، أما علومنا فقديمة ولها فروع متعدّدة وتعتمد لغة تاريخية قديمة متجدّدة، واللسانيات علم عالمي الغاية، إذ يدرس كل اللغات على حين أنّ علومنا تدرس لغتنا أساساً، ولها مناهج موصوفة محدّدة بأطر وشروط، أما مناهجنا فمستخلصة من درسنا اللغوي وترتبط بالغايات الرئيسة لهذا الدرس، مع وجود عناصر تشابه بين المناهج الحديثة في اللسانيات والقديمة في علومنا، ولاسيما على صعيد المنهج الوصفي وأدواته كالملاحظة أو التسجيل والتصنيف ونحو ذلك. وتهتم اللسانيات باللغة المنطوقة قبل المكتوبة، وباللهجات قبل الفصحى، ولها فروع تطبيقية كثيرة تكاد تتدخل في جميع العلوم الحديثة، على حين أنّ علومنا اقتصرت على وصف اللغة وعناصرها وأساليبها، فاللسانيات لا ترتبط بتراث أودين أو قوم دون آخرين، أما علومنا فترتبط ارتباطاً وثيقاً بلغتنا.
آثار اللسانيات
وقد ذكر المحاضر مجموعة من آثار اللسانيات الواضحة في درسنا اللغوي الحديث، ومنها إضافة مبحث اللغات السامية (العروبية) إلى بحوث فقه اللغة العربية لأن هذا المبحث يؤصّل التاريخ العربي قبل مرحلة الفصحى وقد نشأ نتيجة ذلك اختصاص أو علم جديد اسمه “اللغويات المقارنة”. وإحداث علوم جديدة كعلم اللغة النفسي وعلم اللغة الاجتماعي وعلم اللغة الجغرافي وعلم اللغة التربوي وكل ما تأثر بالترجمة ثم شقّ طريقه بين العلوم، ورفدته جهود أهل الاختصاص، ومن هذا النحو: علم اللغة العام وفنّ الترجمة وفن تعليم اللغات، وأمراض الكلام، وصناعة المعجم. وكانت فكرة تجديد علوم كثيرة ضمن آثار اللسانيات، إذ أعطت مصطلحاتها وأسسها المعرفية لمعطيات علمية عربية معروفة، وأصبحت علوماً واضحة كعلم الأصوات والدلالة والمعجم والمصطلح والأسلوبية وعلم النصّ ونحوها. وربما احتاج بعض هذه العلوم إلى جهود حثيثة ليصل إلى درجة الاستقرار والاستقلال. وكان للسانيات تأثير في إتاحة المجال في المنهج لسلوك ما يختاره الباحث كالمنهج المقارن والتقابلي والوصفي والتاريخي بحسب ما انتهى إليه الدرس اللساني، وبما يتوافق والدرس العربي. على أن يكون ذلك متروكاً لتقدير الباحث.
وتابع قدور: زيادة في النشاط العلمي على صعيد المصطلح ترجمة وتعريباً، حيث تشكلت معاجم خاصة للدلالة والأصوات واللسانيات النظرية والتطبيقية. وفسرت اللسانيات الكثير من مسائل اللغة التي درسها القدامى، ولاسيما حين اعتمدت أساليب المقارنة، ودرس الكثير من اللغات بالاعتماد على الأجهزة الحديثة، التي أثبتت بالأدلة القطعية أن أشياء كثيرة من ابتكار علمائنا القدامى عن طريق اللسانيات الحاسوبية واللسانيات المخبرية، كما أثبتت أفكاراً سبّاقة للخليل بن أحمد ولغيره من أهل الاختصاص.

التأكيد على اهوية
وختم د. قدور محاضرته بتأكيده أنه لا خوف على علومنا ولا على لغتنا ما دمنا نملك قرارنا العلمي، وننطلق من هويتنا ونلبيّ حاجات مجتمعاتنا ونحافظ أولاً وأخيراً على الفصحى التي تعتبر شجرتنا المباركة التي يجب أن توظّف لخدمتها كلّ الجهود وتبذل لها جميع الطاقات، فهي في حياتنا الوجه واللسان وفي أوطاننا الرابطة والعنوان.
جُمان بركات