ثقافة

ملتقى النحت على الخشب.. غابة هاربة إلى البرامكة

ما أن تدخل المكان حتى تستقبلك بحفاوة قطع الخشب الكبيرة والمتوسطة التي تتخذ مساحتها بثقل وجدارة، تماماً كما تحوم روحها في الأرجاء، وتلف رائحتها الزكية الزوايا، وتنسيك أنك في “البرامكة ” أكثر منطقة مزدحمة في دمشق، كما تشعر بأنك في مساحة هاربة من غابة وتقيم في ساحة المركز الوطني للفنون البصرية عبر احتضانه لملتقى النحت على الخشب بمشاركة مجموعة  شباب نحاتين عشقوا عملهم وانسجموا مع منحوتاتهم.

قدسية الخشب
“البعث” زارت الملتقى وبدأت الحديث مع النحات هشام المليح الذي بدا منهمكاً بعمله وشغوفاً به، فتحدث عنه قائلاً: “عملي الأول له علاقة بالميكانيكية والحركة فأعمالي متعلقة بالديمومة، خاصة أني أعمل على خشب الزيتون الذي له قدسية معينة وكأن به روحاً. ولأن شخصية المليح قلقة يختار أن يخرج العمل بطريقة تشبهه وفق موضوع التوازن الفيزيائي القلق للكتلة، فيقول: “الكتلة القلقة تريحني بصرياً أكثر من المستقرة، إذ فيها خفة ورشاقة أكثر وهي تشبه شخصيتي”. كذلك يجسد المليح عمله الثاني على خشب المشمش بطريقة تشبهه أيضاً، فعمله له علاقة بالقطوع والسطوح القاسية وعنها تحدث: “الزوايا القاسية تشبهني”، كما أنه يفضل العمل بشكل ارتجالي وحسب وقت وزمان تنفيذ عمله، فاللحظة ضرورية وهي التي تفرض ما يقوم به، أما “الماكيت” فيفقده متعة الإبداع والحوار بينه وبين عمله. ويعتبر المليح أن العمل ضمن ورشة يخلق جواً من المنافسة والسباق تختلف عما يقوم به الفنان في مرسمه الخاص بشكل فردي، وما قد يراه الآخرون شيئاً إيجابياً يراه المليح موضع انتقاد فقد اعترض على وجود تفاوت كبير بين مستويات النحاتين المشاركين، فالبعض منهم ليس لديهم القدرة على التعامل مع الإزميل، لافتاً إلى أنه يجب أن يكون الاختيار مبنياً على أسس ثابتة وبعيدة عن المحسوبيات، لأن عمل الورشات  يكشف قدرات الجميع بدون تزييف.

انسيابية وهندسية
كذلك يبدو شغف النحاتة مروى سليمان بعملها النحتي واضحاً، فهي تستخدم أدواتها كمن يعزف الموسيقا، لاسيما أن عملها يمثل “مفتاح صولو” تنفذه بانسيابية على خشب المشمش، وتقوي بذلك علاقتها بالخشب الذي لم يكن لها تجارب كثيرة معه، مؤكدة أن جميع من في الورشة يعطي أفضل ما لديه  ضمن جو من التحدي والتفاعل والتعاون وتبادل الخبرات، داعية إلى عدم المقارنة بين النحاتين. بينما تنشغل النحاتة يارا الشيخ يوسف -المتخرجة حديثاً- بعمل تكعيبي تنفذه على خشب الجوز بدون أي فكرة مسبقة، بل تلتزم فقط بتوزيع الكتل بطريقة هندسية صحيحة، مشيرة إلى صعوبة التعامل مع الخشب، لأن القطعة التي تزيلها منه لا يمكن استعادتها.

طاقة إيجابية
أما ريماز قيمة التي لم تتخرج بعد من كلية الفنون الجميلة فقد اختارت خشبة بشكل طولاني تتناسب مع فكرتها، مؤكدة أنها تعمل بشكل ارتجالي لأن الخشبة هي التي تقود النحات وتدله على نفسها، ولا تخفي حبها للخشب فهو كما تعبّر عنه “لطيف ورائحته جميلة وروحه تمنح طاقة إيجابية وتسحب الطاقة السلبية، لكن يجب التعامل معه بحذر لأنه غير قابل للترميم”، وترى ريماز في المركز بشارة خير في دعم الشباب، فهو يشترط الشغف والخامة الجيدة وليس الخبرة.
كما وتبدو خبرة النحات علي خضر الخضر واضحة فهو خريج المعهد التقاني للفنون التطبيقية، والآن طالب في كلية الفنون، لذا ينحت بشكل تجريدي صورة امرأة تعبر عن المحبة والسلام، ولأن العمل الواقعي يفترض أن يكون له ماكيت فإن علي ينفذ ماكيته بكل سلاسة على خشبة الجوز، مع أنه يصرح بانحيازه للحجر على حساب الخشب الذي تسيّر أليافه النحات حسب هواها على عكس الحجر الذي  يمكن التحكم فيه بشكل أكبر.

روح الخشب
وتظهر النحاتة فاتنة عثمان في عملها روح الأنثى الحقيقية التي تبقى حزينة مهما امتلكت من قوة، عبر خطوط حادة  مستقيمة، تجعل كل من يراها يفهمها، وتلفت عثمان إلى أنه مع عدم إمكانية امتلاك مرسم خاص يصبح المركز هو الملجأ الوحيد الذي يقدم المواد والمكان أمام كل الخبرات والأعمار، والمطلوب منا العمل والإبداع فقط، كذلك تنفذ النحاتة نينار أباظة “بورتريه” على خشبة بحجم متوسط، لافتة إلى أن الخشبة هي التي فرضت عليها الفكرة، لذلك هي في أغلب الأوقات لاتحبذ العمل على الخشب لأنه هو من يفرض قواعده، بل تفضل عادة أن تكون هي المسيطرة على أعمالها.

منطقة حرة
وبعد أن أشاد جميع المشاركين في ورشة المركز وما يقدمه لهم توقفت “البعث” مع مدير المركز الدكتور غياث الأخرس الذي أوضح أن الورشة منطقة حرة يفكر فيها المشاركون بحرية ويحفزهم ويحرضهم فيها الآخر الذي يملك تجربة أكبر، ويكون هناك لقاء مع الأساتذة للحوار وليس أكثر، فالمركز ليس تعليمياً بل يكرس ثقافة الورشات لأن هناك شباباً متخبطين، مقموعين معرفياً، وليس لديهم مراسم. وفيما يخص ملتقى الخشب أبدى الأخرس أسفه لأن خامة الخشب لم يتعامل معها أحد ولم تول الاهتمام الذي تستحق، لذلك أقمنا ملتقى شبابياً مفتوحاً مع الخشب بحرية في العمل وبدون مشرفين، بل فقط نقاشات وحوارات، فنحن نعطي المشارك الوقت ليخطئ أو يصيب، وبعدها تتم المناقشة لنصل إلى الغاية التي ننشدها من الورشة.

لوردا فوزي