ثقافة

لماذا تركت “القصعة” وحيدة يا تمّام

سميّ “تمّام” أو “أبو قصعة” كما كان لقبه أثناء الخدمة العسكرية، أما عن سبب تسميته أبو قصعة فهو عائد لقصر قامته، وحدث ذات جوع، أن أخبر “الفدائي” تمّام” -هكذا تكون الرتبة” فدائي” خلال الدورات التدريبية-أحد الضباط المشرفين على الطعام، أنه لا يأكل جيدا فهو قصير جدا ولا يلحق أن يمد يده إلى طاولة الطعام حتى يختفي الطعام من أمام ناظريه “صرلي يومين ما أكلت وشبعت الله وكيلك يا سيدي” لذا أمر الضابط بتسليمه قصعة خاصة به، وطلب إليه أن يذهب في وقت الطعام إلى المطبخ ليأخذ طعامه. “إياك أن تضيع القصعة يا أبو قصعة أنت، رح ضل أـسالك عنها حتى في يوم الدين” قالها الضابط فضحكنا جميعا وقمنا بعملية تهضيم لطيفة صراحة بعد أن بانت أسناننا من الضحك، وعمليه التهضيم القسري كانت عبارة عن “دعكلة” رأسية لمسافة واحد كلم، جعلتنا نتقيأ كل ما في داخلنا، أي أنه وفي اليوم الذي شبع فيه تمّام، لم يتسن له الشبع لأكثر من نصف ساعة، بعد أن ” تدعكل” بينما هو يضحك ويشتم حظه معا، ومن يومها والشب البدوي الظريف، صار اسمه “أبو قصعة”.
تمّام، البدوي الطيب، الذي لم يستطع أن يأخذ مأذونية لعام كامل 2002-2003، ولهذا الحدث قصة درامية جدا، لا تحدث إلا في خيال الكُتاب، فهو لم يعلم أين يمكن أن تتواجد أسرته البدوية التي تنتقل في كل عام طيلة ذاك الشتاء، وحدث أنه ذهب في أول إجازة بعد نهاية الدورة، كما الرفاق، إلا أنه عاد في اليوم التالي إلى القطعة العسكرية وقضى إجازته كلها “6 أيام” متنقلا بين سريره العسكري والمطبخ، يملأ قصعته بالطبيخ، وأحيانا كان يعيد ترتيب كل أسرة المهجع ثم يتنقل عليها،ينام فوق كل سرير لبعض الوقت، قبل أن يعيد ترتيبه بكل جدية، وهكذا كان “تمّام” يستريح عن الجميع في غيابهم. أما سبب عودته السريعة تلك، فهو أنه عندما ذهب لقضاء إجازته عند الأهل، لم يجد مضاربهم وخيامهم وحتى ذكرياتهم المتبخرة في الهواء، لقد رحلوا كعادة البدو الرحل هذا الموسم، ولن يتمكن من رؤيتهم حتى العام القادم عندما يعودون.
“تمّام أبو قصعة” بلغني أنه من الذين أخذتهم الحرب في تدمر، استشهد أبو قصعة، مات الشاب الظريف الطيب الذي لم تكن كل الدنيا تساوي عنده قشرة بصلة بعد أن فقد “سعاد” حبيبته، التي صدّع رأسي بها طويلا باعتبار أننا كنا جيران في الأسّرة، حتى صرت أشك في كونها حقيقة، فالشاب كان يحكي عنها كما يحكي العابد المؤمن، ورغم صوته الخشن، الذي يشبه جاروشة الحنطة، إلا أنني كنت استمتع بمواويله “السبعاوية” الحزينة والمسكوبة على مقام “الحسيني” التي كان يغنيها مناجيا “سعاده” فيها وهو يوشك على النوم.
البدوي الشهم، الذي ناب عني في عقوبة عسكرية، بسبب تشابه الأسماء، وصار يمازحني في تفاصيلها، وكأنه كان في الشيراتون لا غارقا حتى أذنيه في وحل “الجاموقة” بينما كنت أنا من يجب أن يعاقب وهو من كان يجب أن يكون في السرير، فقد نادوا على الاسم وأنا المقصود، لكني لم أكن موجودا، فما كان ممن سميّ “تمّام” إلا أن صاح “حاضر” كي لا أُرفع “غياب” في التفقد المسائي، ثم تحت جنح الظلام ومن فم صامت وبكامل الرضا، قضى تمّام أكثر من عشر ساعات في الجاموقة وحيدا، قال لي أنها كانت الساعات الأصعب في كل حياته البالغ عدد سنيها حينها 20 عاما.
“أبو قصعة “ولج عتمة خياله، وصورته الآن تقف قبالة نظري، مبتسماً في كل الأوقات والظروف، حتى عندما عاد من الإجازة التي لم يقضها كما الجميع مع أهله، بل بين المهجع وحسرات صدره، قيل لي أنه كان يحكي للشباب، قصة عودته السريعة، وهو يضحك.
استشهد “تمّام” بعد أن كانت الحياة تتقافز من تحت ساقيه الريح عندما يجري، وكأنه نورس مبرقع يطير على علو منخفض.
لم أعرف ماذا جرى للقصعة بعد أن تم فرزنا كل إلى مكان، ورحت أعاتبه بعد أن بلغني نبأ استشهاده بالسؤال: لماذا تركت القصعة وحيدة يا تمّام؟ وأي إله طيب، يسكب لك الطبيخ الآن يا صاحبي.
أتخيله يمشي بهدوء في سهل قمح أخضر ممتد إلى الأبد، يده بيد سعاد التي لا ريب صارت حقيقة الآن، وعلى خاصرته وبشريط بلاستيكي أبيض، ربط قصعته العزيزة ومضى نحو صباح غض، لا يخف وهج بريقه البديع.

تمّام علي بركات