ثقافة

مشاهد وأوقات

 

يحدث حيناً من الدهر، والعمر، أن تجد نفسك في مكان مثير؛ جدّة أو استذكاراً، وحيداً أو مع آخرين، فيأخذك المشهد، وتشغلك التفاصيل، وتقعد متأمّلاً، أو تنهض متنقّلاً في جنباته، مستغرقاً في جهاته. قد يكون المكان بسيطاً أليفاً، يمنح السعادة والدفء والنشوة، وقد يكون غنيّاً بالعناصر الصغيرة والكبيرة. ربّما هو قديم بملامح عتيقة، وألوان حائلة إلى سوادها، أو في الطريق إلى ذلك، تمسح الأيّام عنه ما تراكم، ما استجدّ منها، وتحاول ترميم ما تصدّع أو تآكل، أو تلاحق ما تبعثر وتشرذم؛ وقد يكون حديثاً مبهراً بأضوائه وألوانه وتقنيّاته وحركاته ومرتاديه؛ حتّى لو كان الموقع متكرّراً، تراه في أوقات متقاربة؛ قاصداً، أو ملزماً نتيجة سكنى أو عمل؛ أو كان عارضاً، بالرغم من وجوده قريباً منك، لكنّك منقطع عنه، لا يدخل ضمن اهتماماتك، وليس في سبيلك. ويمكن أن تكون لمّةٌ أو بضعة من أناس جمعتكم المصادفة أو المناسبة المشتركة، وقد لا تجتمعون مجدّداً، إذا ما حدث ذلك، إلّا بعد زمن ووقائع وافتقاد؛ لأنّ هناك من سيغادر، أو يرحل، وهناك من قدِم لبعض الوقت، ولن يطيل المكوث في المنطقة، أو البلد كله.

وقد يكون المشهد مرأى الشمس المصرّة على المغادرة أصيل كلّ يوم، وتحرص أن تراقبها كلّ غروب، إن استطعت، من دون أن تعرف السبب، أو تفكّر فيه، وتحزن، تكتئب، إن فاتك الموعد. تستطيع أن تلاحظ أنّ مكان انسرابها إلى ما وراء الجبال، يتحرّك قليلاً إلى الجنوب في هذه الأوقات من السنة، التي يتقاصر فيه النهار، لصالح الليل! ويمكن أن تلاحظ أنّ حركتها، التي تتمثّل بانزلاقها من لحظة ملامستها (مجازاً) حدبة الأفق الجبليّة، أو حدّه البحريّ المستقيم، حتّى اختفائها بكامل محيطها،تستغرق أقلّ من ثلاث دقائق.. وهذا البحر موجود أمامك، في واجهتك، قريباً أو بعيداً، تفصلك عنه الغيوم أو الضباب أو العتمة، وقد يظهره انعكاس الشمس في مياهه؛ استكشافاً أو توسّلاً، قبل انغماسها فيه، أو تشغلك أمواجه، أو يستفزّك هدوءه وانبساطه، وزرقته التي تتبدّل من خافتة إلى قاتمة؛ الليل ونجومه وتبّانته، والسماء وصحوها وزرقتها المتبدّلة وغيومها العابرة بندف، والملبّدة باحتشاد؛ والرعد وأضواؤه المبشّرة الممهّدة، التي لا تخلو من مخافة وارتعاب مزمنين؛ والمطر الذي يثيرك أوّله، ويغبطك هطله، ويدغدغك قلق قديم، بالرغم من “البيت الحجر والسقف الحديد”؛ هل سيبدأ (الدلف) وقعه المريب؟! والرياح واشتدادها، واصطراع الأشجار وغصونها، والأرض إذ تغرق بعد جدب، فتفيض معها أشجان ومشاعر وأوقات وفقدان.

تمرّ ببعض هذا، أو يمرّ بك، فيثيرك حيناً، وتعبره بغصّة، أو يعبرك وأنت منشغل عنه بهموم وأشياء، لا تراها عياناً، وتستوطن بصرك أو نظرك، وتتمثّل اللوحة كلّها.

تحزن أحياناً على أنّك لم تعش الحالة كما يجب، كما تستحقّ هي، وكما تتمنّى أنت؛ كما كنت تعتقد.

تحاول القبض على المشاهد، لكنّها ستفلت منك، وستنفضّ عنها، وتفتّش عنها بعد حين، أو تنتظرها، أو تبحث من جديد. تدهش أحياناً؛ كيف مرّت؟! متى حدث ذلك، أين كنتُ؟! بماذا كنتُ مشغولاً؟! وهل هناك ما هو أهمّ؟!.

وتقلق أحياناً أخرى؛ ماذا كسبتُ؟! كيف أضعتُ الوقت؟! متأمّلاً ساهماً متبتّلاً منتشياً؛ هل أنا عاطل عن العمل؟! وهل أنا مكتفٍ ليست لديّ مهمات، ولا مسؤوليّات؟!.

وتحتار أيضاً حين تكون في لبّ المشهد: “لا يرى الحديقة جيّداً من كان في وسطها”؛ هل تترك كلّ شيء، وكلّ تفكير، وتنشغل به؟! تتأمّل، تتمثّل حيثيّاته وأويقاته، وتتشبّع بكلّ مافيه؟! وهل تستطيع أن تحتاز على أشيائه كلّها؟! ألا يتفلّت منك شيء؟! وتغيب عنك أشياء؟! أم تهرع إلى تسجيله بالتصوير، أو التصوّر، أو الرسم، أو الكتابة؟!.

ألا يمكن أن تعود إلى المشهد، بذاكرتك وذهنك، وأحاسيسك، لا بما سجّلته عنه من معلومات وتوصيفات وصور؟!.

أمر يتكرّر في حياتك القصيرة، حتّى عن تأمّل جميع ما حولك، وما يستجدّ فيه؛ فكيف هي الحال، مع ما يبتعد عنك باطّراد، وقد تكون فيه ذات حين من الدهر، لا يساوي إلّا النذر اليسير، وليس عمرك القصير كافياً لكي تذرّره على مثل هذه المشهديّة؛ فلديك أحلام وآمال- ما تزال- ومسؤوليّات وهموم ومتاعب.

غسّان كامل ونّوس