ثقافة

في نقض موت الخيال؟!

في فورة التفجر المعرفي وتجلياته التي غزت الفضاءات المختلفة، إذ أن عصر الصورة يوشك أن يصل إلى ذروته.. هل يمكن لنا أن نذهب في أطروحة افتراضية تقول «بموت الخيال»، وهل هي أطروحة تعني جانباً من الحقيقة وليس كلها؟.
في تهافت السير الجارف من الأطروحات، وتواترها على نحو أو آخر؛ مثلما وقر في الأذهان بأطروحة موت المؤلف المثيرة للجدل كما استبطان موت القارئ وموت الذائقة، ذلك الموات الذي لا يعني في حقيقته سوى إعادة تأهيل مرجعيات التلقي والقراءة والتقبل، إعادة من داخل حقل ثقافي لانفتاح الدلالات أكثر، وعليه فإن «إثم» التقنية التي وجدنا فيها أشبه باحتضار التفكير وصولاً إلى احتضار الخيال حتى يمكن التندر بذلك بالقول دع الخيال يفكر عنك يقول الشاعر الراحل محمود درويش في جداريته الشهيرة: «من سوء حظ المؤلف، أن الخيال هو الواقعي على خشبات المسارح»،إذن في مقابل ما يتفتق به الواقع عن صور وحدوس، ينأى الخيال قليلاً ليتأمل دوره ووظيفته، كم يظل حاضراً على مسارح الأذهان!.
إذن ففي استدعاء الخيال المحتضر استدعاء للحروف الندية وللغة الثرية الباثّة طاقةً ودينامية تجدد عقد الإنسان مع روحه، وتاريخ روحه، الخيال حساسية وفطرة لا صناعة، وبهذا المعنى رأوه حرية، تُطلق الروح إلى أمداء لا نهائية لتسكن عالماً مترامي الأطراف، قصي الجهات وتطيل فيه الإقامة ما أمكنها، وهذا ما يفسر كيف يمكن سُكنى العالم بالشعر مثلاً.
ربما أتاحت بضع كلمات خرساء نجدها في الأغاني التي تستهلك الحساسية والذوق كأننا بها رجع صدى، أن تشي «بموت الخيال»، لكنها لا تُعلن حقيقة تتأبى على النسيان إذ إن الخيال هنا يذهب إلى صيروراته المحتملة، وهذا ما نجده في مفارقاتنا اليومية، وفي أحلامنا التي لا نعرف بالضبط متى ينتهي فيها الخيال ومتى يبتدئ بها الواقع، لأنها متصلة منفصلة، لا أصبحت هي أسيرة الواقع ولا الواقع يأسرها، ليست تلك جدلية بطبيعة الحال، بل  هي السعي اللائب لالتقاط حقيقة مازالت متعالية تقول بأن الخيال صوت ينبغي الإصغاء له حتى يدرك من يقبض عليه كيف تولد الحياة من جديد، ومعها تبدل الكلمات أثوابها، لتشف عن الطليق الأثير: المعنى.
ومن مآثر التشاؤم الذي بلغ قلب العالم أن تلد الحساسية لديه عمياء، لا يتحسس ما تذهب إليه الرؤيا، بل يقع على الراهن ويدور في فلكه، في إعادة إنتاج لا تسفر عن تعبير الصور ولا استعادة رواية الكلمات حينما تغتسل ببراءة الذائقة.
فمن يخلص الخيال البشري من غيبوبته، لا موته المعلن أو شبهة ذلك الموت، ومن ينجو بحبر الرؤيا ليلون فجوات واقعه بالمحلوم والمشتهى، وحدها اللغة الثرية القابلة للحياة والمبرأة من السكون والعطالة، من تُعلن أيضاً أنها لغة الأحياء القادرين على محو الوهن والهشاشة، وبذلك تعلنهم أحياء ليستمروا بالحياة محمولين على ذاكرتهم القريبة البعيدة، ولطالما شبه الكاتب «تييري وانغفيلين» في كتابه الباهر «القصبة المفكرة-خديعة الحداثة الغربية» الإنسان بالقصبة المفكرة، في أزمنتنا الحديثة على الرغم من مفارقاتها الفادحة، التي «تطلق الإنسان وتقيده» بآن معاً، فهل يستطيع المبدع الهاجس بالحداثة، بل والذاهب في دروبها ومسالكها الأكثر وعورة والأقل اتساقاً، هل ينجو بخياله ليصبح صورة روحه الأخرى، ولا يُستلب ذلك الخيال على بلاط التقنية وفورة الآلة العمياء.
فحساسية الخيال في مقابل إرهاب الخيال، وثقافة الإرهاب التي دأبت على تقويض الحساسيات جميعها، ولنتساءل بتفكير مسموع، بمَ يفكر الخيال ذاته، ونحن في لجة الواقع وأهواله ومفارقاته الشديدة الخيال، نحتكم إذن لما يحملنا على التماس شرطنا الإنساني مجدداً، والإنسان هو المركب الفريد ما بينهما وإبداعه المنشود هو الكثافة المنتظرة بامتياز.
أحمد علي هلال