ثقافة

الدكتورالزاوي.. وتساؤلات تجاوزت حدود المادة والروح

إنَّ محرّكات المادة والروح وعجلاتهما الفلسفية لم تتوقف عن الحركة بعد موت الفلاسفة،لأن الإنسان يتكون من مادة وروح والانفصال بينهما هو الموت، فهل ما تحتاجه البشرية الآن هو الصُلح بينهما..؟.
هذه ليست دعوة للدجل أو الخرافات وليست دعوة لتدنيس وإهانة الروح وإنزالها من عرشها السامي، وليست دعوة لإثبات الإعجاز العلمي المزعوم في الكتب التي يعتبرها أصحابها سماوية. هذه دعوة للصلح بين المادة والروح فكيف، ومتى، وهل يتم صُلح الإنسان مع ذاته (مادته مع روحه)..؟.
شكّل  المفكر الدكتور أحمد عمران  الزاوي علامةً بارزةً  في “خواطر تجاوزت الحدود” بما أنتجه  في مجال المعرفة الإنسانية، إذ استطاع من خلال محاضرته الفلسفية التي ألقيت ونوقشت في فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس أن يؤسّس مدماكاً نوعيّاً، بل حواراً معرفياً في استعراضٍ مختصر للحوار الدائم بين “المادة”, والروح، جمع فيها العقل والشرع والذوق العرفاني، مشكلاً انعطافاً مفصلياً في تساؤلات لا يُستهان بها من الخواطر والمسائل الفلسفية وتقابلها الديني والعرفاني.
ركز  د. عمران على العلاقة بين الذات/الروح/ وبين الموضوع /المادة، فبيّن الصورة الذهنية والواقع الخارجي لينتج حواراً يقينياً، لا هو العقل بمفرده، ولا الإشراق وحده، بل هو تركيبٌ اتحاديٌّ يستند إلى الآيات والروايات والأيدي التي غمرها التعب ولا يمكن تجاهلها، واستطاع  من خلال خاطرته الأولى أن يضع حلاً لكثير من المشكلات العالقة بين المادة والروح، إذ قال: “لم أرَ فرقاً بين من يربط قلمه بحذاء برج إنساني وبين من يسقيه من دموع المعذبين، كل منهما يعبّر عن حالةٍ يمر بها، على أن خير الأحوال هو الإخلاص للحق”.
أعطى المحاضر للمُعطى الديني، القرآن والمرويات أهمية مركزية في محاضرته، ووضع تقابلاً فلسفياً لبعض الآيات وحاور المسائل المتعلقة بالحواس وأكد أن: “الجميع عبّروا عما يحسون والحكم للتاريخ على الدوام”.
يورد  د. عمران في  خاطرته الثانية، أن التطور الذي سمي إبداعاً هو التفسير الصحيح للصراع الأبدي بين القديم والجديد، مؤكداً أن التاريخ  كتبه المعذبون.
برز في أسلوبه الاتصال بالعقل الفعّال وظهرت الغاية القصوى  للحركات التكاملية للنفس وهذه النتيجة تُستنبط من قوله: منذ أن اكتشف العقل أن جهود العامل تقدّم إنتاجاً تفوق قيمة حاجاته الغذائية والكسائية، سمي ذلك الاكتشاف “فائض القيمة”.
أن للشيخ المفكر، من هذه الحيثيّة، تصنيفاً واضحاً: “الطوابير التي تقدم فائض الإنتاج هي نوعان:
الأول: هو الشقي الذي قدم فائض إنتاجه، والثاني: هو الأشقى لأنه قدم الأكثر.
وفي خاطرته الرابعة نستنتج، أن القوى والأدوات الإدراكية جنود مجندة عملها الطاعة والانصياع لإرادة الموت:”ومثلما طوى الموت ذا القرنين وجنكيز خان والفراعنة وهولاكو، سوف يطوي زعماء كل زمن. هذا المصير،هذا الحتم لم أجد أبلغ  في وصفه مما جاء في القرآن الكريم: “إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً” (مريم 19/93)
شكّلت الحكمة المتعالية عند الباحث حواراً نوعيّاً في فهم ما وراء المادة  ودفع ضمناً بتساؤلات عديدة، هل الميتافيزياء هي ضد الفيزياء؟
لماذا عندما يتكلم أحد عن ما وراء الطبيعة نعتبره شخصاً غير عادي؟ هذا شيء بداخلنا كلنا, نحسه ولكننا لا نعرف كيف نعبر عنه ونكتمه.
كل العلماء العظماء مثل ديمقريطيس وجاليليو ونيوتن أنهوا حياتهم كفلاسفة، لأنهم وجدوا أن علم المادة يصل لحافة وحاجز غير مرئي ولكنه بداخل الإدراك وهو الروح.
وآخر العلماء الفلاسفة العظماء هو أينشتاين والذي ذهب بالمادة إلى حالة الطاقة وهي الحالة الأقرب للروح.
ويثبت الباحث أن النظرة المادية البحتة للكون آخذة في الأفول بعد اكتشاف المكونات الدقيقة للذرة من الإلكترونات والبروتونات والنيترونات وكلها شحنات كهربية، فتحليل الأشياء يدل علي تأثير عقل مدبر فيها وهذا العقل العام في كل شيء يدبر كل ذرة وكل جزء، وهذا العقل العام المدبر لا يقبل الفناء فهو أبدي.
وأكد الباحث هذا المعنى في طيّات خواطره:”إنَّ القوى والطبائع تحاكي بأفعالها صفاتها، وبآثارذواتها، فالبصر من جنس الألوان والأضواء.. والخيال من جنس عالم الغيب”..
هل هو استنتاج عقلي صحيح على وجود قوة عاقلة مدبرة تعلم كليات الأشياء ودقائقها ولا تقبل الفناء، وكل هذه الصفات هي للخالق تبارك وتعالى..؟
يتجلّى هذا المستوى في الإجابة عن السؤال المركزي في استهلال خاطرته السادسة مصورا مدى الصراع الفكري بين “المادة والروح”.
ينظر إلى دور الحس نظرة إيجابية، مُعترِفاً بأهمية الحس في إدراك الحقيقة، فالحاجة إلى الحواس أمرٌ حيويٌّ وضروريٌّ لتكامل السير العلمي  للنفس. ويكرر ما قاله  الماديون: “من أن لا يقين إلا ما أكدته الحواس ولا علم إلا العلم المادي”، وهذه الغيوب وسواها ملأتنا بالدهشة والعجز، وبالتالي بالخضوع إلى الخالق الذي لم يخلق أي شيء عبثاً ولهواً”.
وتبقى النتيجة العلمية لهذه الحركة هي وحدة الجوهر الإنساني، الذي جمع بين النفس وقواها الإدراكية، والجسم الطبيعي الحاصل لهذه النفس، وأنَّ لا تضاد بين الطبيعة وماوراء الطبيعة وهذا يؤكد مقولة:”النفسُ جسمانيةُ الحدوثِ روحانيةُ البقاء”.
وعليه، التراكم المعرفي الوجودي للنفس،هو حصيلة  التغيير الجوهري فيها، فالمعرفة صيرورة الأنا وتطور الوجود، فهي كالوجود، بل هي عين الوجود، فبين المادة والروح مُشترك دلاليّ هو أبعد من الدلالتيْن الثابتتيْن معاً،ومحصّلة ذلك البحث، مرجع كُلّ الأبحاث السابقة ومُولدّها الأكبر.
ويقر الباحث “هذه هي الحقيقة، وعدم المعرفة بأمور كثيرة لا يعني أنها غير موجودة، ولكنها لم تدخل بعد تحت سقف الحواس”.
“الفكر هو ذلك الأقنوم الذي يقوم بترتيب ما يرد إليه من صور الطبيعة وأصواتها وروائحها ثم يقوم بتقليمه ودمجه في إطارٍ مستقل ثم إبرازه عن طريق الجوارح”.
وخلاصة المعنى: “في الحقيقة هو ليس صراعاً بل اختلافاً في الرأي”.. وأن العلم الذي لا علم سواه هو العلم المادي الذي لا يظهر إلى الوجود إلا بالحواس”، ويوائم د. أحمد عمران الزاوي  في خواطرٍ تجاوزت حدود المادة والروح خواطر  الشيرازي من خلال قوله:”إنَّ تصرفَ النفسِ في الأجسام جسمانيٌّ، وتعقّلها لذاتها وذات جاعلها روحانيٌّ، وأما العقول المفارِقة فهي روحانية الذات والفعل جميعاً”.
*محمد بن إبراهيم الشيرازي ،الحكمة المتعالية  في الأسفار العقلية الأربعة ،ج8،ص14
أحلام غانم