ثقافة

فلسفة الأنوار في نجدة القرن الحادي والعشرين

أحياناً, نُبدي شيئاً من الحزن لكوننا نعيش في الألفية الثالثة الكئيبة. الانطباع بأن التقدم لم يعد كما كان عليه, وأن روح العصر- وللأسف- نحو الانحدار.غالباً ما نبكي من الضجر أمام التفكير الصحيح السائد, ونتساءل بقلق إذا ما كان من الواجب احترام جميع الأفكار والمعتقدات التي نخالطها من باب فرض التسامح أو هو بالأحرى نوع من الثبات النقدي. باختصار, الزمن مضلل, ونطمح لاستعادة جسارة الفكر, وخير ما يساهم في هذه المهمة هو العودة إلى عصر الأنوار. وهو ما يؤكده صدور مؤلفات في قياس كتب الجيب لـ: فولتير, وديدرو, دافيد هيوم, الخاصة بالإيمان بالله, إذ تشكّل قراءتها نشاطاً وحيوية.
“تجرّأ على استخدام عقلك” كان هذا شعار الأنوار بحسب إيمانويل كانط, إن إتباع هذه القاعدة هو في واقع الحال الطريقة الوحيدة كي نتجنب السير خلسة وراء تفكير الآخرين, ذلك أن فلاسفة القرن الثامن عشر انتهجوا التحرر عن طريق العقل, ومارسوا النقد في البديهيات والتأكيدات والأفكار الشائعة التي كانت تكوّن المشهد الفكري في أيامهم. ومن الواضح أن مسألة الدين كانت إحدى أولوياتهم من زاوية الفلسفة (هل الاعتقاد بالله مبرّر؟). ومن زاوية الأخلاق (هل الفضيلة ممكنة خارج الخشية من الله). قبل أكثر من ثلاثين عاماً من اليوم, كانت تلك المواضيع تبدو وكأن الزمن قد تجاوزها, لكنها وبطريقة مذهلة, استعادت حضوراً راهناً قوياً. فالرئيس الفرنسي السابق ساركوزي يمتدح الكهنة باعتبارهم أكثر كفاءة لتعليم المبادئ الأخلاقية من المدرسين, وفي الإطار نفسه, يُطالب نائب برتغالي حامل جائزة نوبل للآداب, خوسيه  ساراماغو, بالتخلي عن جنسيته البرتغالية لأنه أصدر رواية بعنوان ” قاييم” لا يحترم فيها كثيراً تعاليم العهد القديم, وما خلا هذين الحدثين المعروفين, تتزايد المؤشرات على عودة طغيان للعامل الديني, سواء عبر دعم هذه السلطة الدينية أو تلك، أو من ضمن مناخ روحاني كامل الضبابية، ما يثير الفرح ويبعث على الضحك عند قراءة كُتابات فولتير وديدرو وهيوم, رغم أنها مخصصة لموضوع صارم. والسؤال الأساسي هو: نؤمن أو لا نؤمن- يحصل باستقامة فكرية بعيدة كل البعد عن أية خرافة, وأن النقاش لا يحييه إلا السعي إلى حقيقة منطقية. ونجد السعادة الصرفة التي تظهرها المناقشات المسائلة للميتافيزيقيا,عندما يتم الاستعاضة عن البخار الروحاني, يتمتع كل من هؤلاء الكتّاب بجذرية في مقاربته, تكتسب أهميتها في زمن كان الفكر الحر مصدر وخطر و حقيقي على أصحابه, فعندما كتب فولتير”الفيلسوف الجاهل” لم يكن قد نسي أنه قد تم الحكم, قبل أعوام, على الفارس دو لا بار – الذي اندفع للدفاع عنه بشراسة, بالموت بتهمة انتهاك الحرمات, وأنه قد أحرق “القاموس الفلسفي” من تأليف فولتير نفسه فوق جسد الفارس بعد تعذيبه. كما تم تمزيق كتاب ديدرو وإحراقه لأنه اعُتبر ضد الدين والأخلاق الحميدة. أما البريطاني هيوم, فقد كان من الحذر بمكان لدرجة أنه لم يصدر مؤلفه “حوارات حول الدين الطبيعي” إلا بعد وفاته. لكن الأجمل هو أن هذا  التحقيق الثلاثي في ما يعني الاعتقاد بالله والذي لا يقدّم أجوبة متقابلة, يدعو القارئ من خلال المنهج المشترك, إلى اعتماد الشك
(وهو أساس العقلانية الديكارتية) الذي يحرر من الأفكار المسبقة ومن التعصب في آن واحد. فالفلاسفة لا يهتمون بالإيمان الذي يندرج في سياق المعتقدات, ما يهمهم هو ما يقع في مجال المعرفة, ماذا بإمكاننا إذاً, أن نعرف عن الله؟ لا شيء. ما دام العقل البشري المحدود عاجزا عن معرفة الله اللامتناهي تعريفا, إنه لأمر رائع, لأنه انطلاقا من هذا العجز المنطقي تتبخر تلك الأفكار التي “تبدو لك عميقة لأنها فارغة” كما يقول فولتير. يُفسح المجال إذاً للتأمل في أسس الأخلاق وطبيعة الفكر. والجميع أحرار في أن يؤمنوا بما يمكن أن يكون لهم بمثابة عزاء. أمام الإنسان في وحدته, يبقى مهمة العيش باحترام ما يجعله إنساناً. هكذا كانت الرحلة مع ديدرو الملحد وفولتير المؤمن بالله وحده من دون وحي, وهيوم المشكك, هؤلاء المصلحون الثلاثة الشجعان الذين عملوا كي يُتاح لنا خلق قيمنا بفعالية وإتقان.
إبراهيم أحمد