ثقافة

الثلج ليس للفقراء

أمسك قلمه وبدأ يكتب بلون أسود، الخيالات أمامه تتقافز لأناس عرف جانب منهم، أراد إكمالهم بما يعتقد ليخرجهم من رأسه بعدما بدؤوا بالنمو فيه كالفطر، يجعلهم من لحم وحبر يعيشون حياة ناقصة مليئة بأوهامه، كلمات كثيرة تتزاحم لتسقط من القلم على الورقة البيضاء، لتقف شخوصه على قدميها، وحدها كلمات حفظها وأراد قولها لها مرات عديدة، اقتحمت حبره وظهرت فجأة على صفحته، أصابعه خانت القلم وبقيت الشخصيات حبيسة قلم الحبر، لتنساب هذه الكلمات من بينها كسيل جارف لا يقف في وجهه شيء، كلمات كانت موجهة لها، لم يستطع الطلب منها أن تبقى قليلا ليتكلم، يعرف أن الكلمات لن تخرج من فمه، كانت تكدس حروفها فوق بعضها وتتجه نحو الأسفل  لتبني حائط الصد الأقسى حول قلبه، في البداية لم يفهم لحظة رحيلها تماما، فكان كمن لم يشعر بألم الرصاصة إلا بعد أن بردت واستقرت في قلبه، تذكر ذات مرة رسالتها:
سأحبك في برد مضى وبرد أتى يلتحف سواد الصقيع.
سأحبك وفي جحيم مستقر سيبقى لأيام تعد عدا بتوالي ممل لا يحمل إلا الثلج العجوز وهو يتكئ على ربيع الأرض ودفئها.
سأحبك و في كل مرة أقول هذه الكلمة أشعر كيف تلسع نار الجحيم روحي، جحيم لا يميز بين فراق أو لقاء.
سأحبك وأركض بعيداً لأصبح بطلة المسافات البعيدة حيث لا أحد يستطيع اللحاق بي، ألتقط كلمة أحبك التي سقطت من فمي رغم إرادتي وأهرب بها لكي لا تلوثها الحياة.
سأحبك وأعرف أنك دفنت ذلك الطفل الذي لمس روحي بداخلك للأبد ولن أراه ثانية.
سأحبك عندما تحترق الأوطان وتحتضر المدن وتبحث عن قديسيها المارقين لتنجو بذنوبها، فتستحق البشر بين جدرانها ليعرفوا معنى الحياة.
سأحبك وأنا أحمل سلاسلي بين يدي وأقدامي وأسير في سرداب الوقت الذي يظلم أكثر كلما اقتربت من نهايته.
سأحبك عندما أخرس وتموت الكلمات في روحي فأشعر أن روحي تستشعر صوتي وتتحسسه لتبعث فيه الحياة من جديد.
تذكر كيف انتظرت ردة فعله على رسالتها، بعيني طفلة استلمت هدية الميلاد وتتشوق لمعرفتها بفرح، تذكر ارتباكه من نظرتها وابتسامته الساخرة ليخبئ هذا الارتباك عندما قال لها: يا عزيزتي الثلج للأغنياء فقط، ألا تعرفين أن الفقراء أمثالي يكرهون البرد والثلج ﻷنهم لا يحتملون رفاهيته، فهم لا يملكون ثمن الدواء للمرض الذي يصيبهم جراء الثلج ولا ثمن الثياب الدافئة، تذكر كيف أن قلبه كان يضج محتجاً بصوت مكتوم مقهور، تذكر كيف طوى تلك الرسالة ووضعها في جيبه، رأى كيف أن كلماته أطفأت النور والبريق في عينيها فجأة كنسمة هواء باردة تطفئ الشمعة بهبة واحدة، ابتسمت، أدارت ظهرها ورحلت ببساطة، تأملها وهي ترحل ووضع يديه في جيبه، يتذكر كل ذلك بتفاصيله الكثيرة يتذكره تكرارا وتكرارا، أراد كتابته، كتابة أشياء كثيرة لها، أشياء جميلة ولكن ضجيج روحه وتأنيبها خانه وكتب كلمة واحدة، أحبك.
نسيبة مطلق