ثقافة

الكوميديا السورية.. رسالة إنسانية ومعرفية

مع التطور المتواصل للإنتاج التلفزيوني، كان للكوميديا دور كبير في تسليط الضوء على مشكلات الواقع الحياتية بأسلوب ساخر يحاكي هموم الناس ومعاناتهم، ويعبر عن الأزمات التي يعانيها المواطن وتؤرقه..
وارتباط الكوميديا بالنقد يعني أنها كوميديا هادفة انطلاقاً من إحساس صانعيها بمسؤوليتهم تجاه المشاهدين، ودورهم في تحريض فكرهم حول واقعهم، وما يدور فيه من أحداث، فقد اعتمدت الكوميديا السورية منذ بداياتها مع الفنان حكمت محسن على العفوية والتلقائية التي تحمل في مضمونها هدفاً تقدمه من خلال الابتسامة، وبعدها جاءت تجربة الفنانين نهاد قلعي ودريد لحام التي اعتمدت في شخصياتها على نماذج شعبية نلتقيها في حياتنا اليومية، وتعكس صدى لمعاناتنا وهمومنا..ثم انتقلت الكوميديا من التلفزيون إلى المسرح عبر التعاون بين الفنان دريد لحام والشاعر محمد الماغوط، لتأخذ بعداً فكرياً بعيداً عن الكوميديا الساذجة، فعبّرت تعبيراً مباشراً عن الهم الوطني والمعيشي للمواطن، إذ مازجت بين النقد السياسي، والنقد الاجتماعي..
لكن سمة الكوميديا الجديدة والتي لا تحمل اسماً محددا تعتمد على مجموعة من الأشخاص وتآلفهم في ما يقدمونه، والكوميديا تعبّر عن حالة عقلية تختلف من جيل لآخر، فكلما كانت مقاربة للعصر تستخدم مفرداته وإحداثياته فإنها تعيش فترة أطول، وانطلاقاً من ذلك فقد عبرت الكوميديا عبر مراحل تطورها عن هويتها وخصوصيتها.
إلا أن تساؤلات كثيرة أحاطت بهذا الإنتاج القديم منه والحديث، وتناولت مدى مشروعية ما يقدم، وكيفية تقبل الجمهور له، والعلاقة التي تربط بين التجارب المتعاقبة قديمها وحديثها، أهي مقطوعة بشكل جزئي أوكلي..؟ أم أنها علاقة استمرارية وتغذية وتطوير..؟ والقديم هل يمكن أن يعتبر مجرد ماض وتاريخ وحسب..؟ أم أنه ما يزال يفرض وجوده وله محبوه ومتابعوه من كبار وصغار حتى الآن..؟ والأعمال الحديثة هل استطاعت أن تفرض نفسها كتجربة جديدة ولون كوميدي أعطى إضافة جديدة لمسيرة الإنتاج السوري للكوميديا..

معيار التقييم

والسؤال الأهم الذي يفرض نفسه بإلحاح من هو الحكم في هذه المسألة..؟ وهل هناك معيار دقيق تقاس وفقه الأمور، وإن وجد أهو معيار الناقد أم معيار الجمهور..؟ وهل يمكن للجمهور أن يكون حكماً وهو غالبا ما يقع فريسة لما يتلقفه من الفضائيات المتعددة، فهو إن كان قادرا على تمييز الغث من السمين، فهذا لا يحصّنه من الوقوع في مطب تقبّل أي عمل كوميدي لكونه يتلهف لمتابعة ما هو بعيد عن التراجيديا ومآسيها في محاولة للهروب من هموم الحياة ومشكلاتها.
وإذا توقفنا عند الكوميديا التي قدمت في السنوات العشر الأخيرة تطالعنا عناوين كثيرة لعل أبرزها “بقعة ضوء” تأليف مجموعة من الكتاب وتمثيل نخبة من نجوم الدراما السورية، وقد حقق هذا العمل عبر أجزائه كلها قبولاً وجماهيرية لا بأس بها، وهناك أيضاً مسلسل “ضيعة ضايعة” الذي يذكرنا بتجربة الفنانين دريد لحام ونهاد قلعي عبر الكاركتر الذي قدماه بعفوية وتلقائية تمثل الحامل الأهم والأساسي للكوميديا، ثم يأتي مسلسل “الخربة” الذي كان في مضمونه انعكاس للواقع الأليم الذي تعيشه سورية، والذي أبدع فيه بحرفية فكرية وفنية قطباه الموهوبان ممدوح حمادة كتابة والليث حجو إخراجاً ومشاركة عدد كبير من الفنانين الذين تألقوا بأدوارهم جميعا، ما أعطى مصداقية جذبت إليه الجمهور من خلال الأسلوب النقدي الذي اعتمداه في العمل.

رسالة هادفة

وما يشهد للكوميديا السورية منذ انطلاقتها وحتى الآن هو الرسالة الإنسانية والفكرية التي تحملها من خلال تقديم المأساة بأسلوب كوميدي ساخر، وقد نجحت بهذه المهمة.
وفي هذا الظرف الصعب والمؤلم الذي نعيشه، ربما يكون للضحكة أهمية بالغة يحتاجها الناس لتشكل حالة من الاستراحة هرباً من الظروف التي يعيشونها، وبما أن المشاهد السوري لم يعتد على السطحية والتهميش، فإنه يرفض الكوميديا التي لا تحمل رسالة هادفة ليكون مفعولها مؤثراً في المشاهد.
وإذا كان مسلسل “الخربة” يشكل استمرارية لمشروع ممدوح حمادة الذي يقوم على استشراف الواقع وقراءته قراءة فكرية نقدية وقراءة لما يحدث الآن على مستوى الوطن العربي، بما فيه سورية. فإن مسلسل “بقعة ضوء” بأجزائه كلها أثار جدلاً وسجالاً واستقطب في الوقت ذاته نسبة كبيرة من المشاهدين بسبب تماهيه مع هموم الناس وتسليط الضوء عليها ومعالجتها، ومثل  بمفارقاته وصوره الناقدة والجرأة التي قدمت بها مشهدياته ضمير الناس، وعرى المجتمع برؤية إخراجية متقنة وجميلة، رسمت حالة من الوعي لدى الناس. وإذا أضفناه إلى مسلسلي “ضيعة ضايعة والخربة” نرى أنها أعمال تمثل مشروعاً واحداً تتكامل رؤاه الفكرية والفنية، ومع كل الظروف الحالكة التي نعيشها استطاعت هذه الأعمال أن تنتزع الابتسامة من الألم الذي يعتصرها، وأن تكون امتداداً حقيقياً للكوميديا السورية منذ انطلاقتها وحتى الآن.
إننا لا نستطيع أن ننكر أن الكوميديا الجديدة شكلت انطلاقة الكوميديا السورية إذ اعتمدت لغة جديدة غير مستهلكة، لغة مختلفة تحترم عقل المشاهد، ولا تقدم الأحداث بشكل تهريجي دون معنى، وهذا غاية في الأهمية.. لكن تساؤلنا الذي يفرض نفسه علينا هنا: مانشهده الآن من أعمال تُدرج تحت مسمى الكوميديا، وهي لم تمثل في طروحاتها أكثر من حالة تهريجية فارغة من أي مضمون، هل تمثل حالة تنافسية بين أصحاب هذه الأعمال والرهان على من يستمر أكثر، والضحية هو المشاهد.. أعتقد أن المسألة تحتاج لنظرة أكثر شمولية، ولوقفة يتم من خلالها إعادة النظر بما يقدم، وابتكار أساليب وأفكار جديدة تواكب معطيات زمننا بعيداً عن التكرار والتقليد، لنحافظ على نجاحنا، وتميزنا..

المحررة الثقافية