ثقافة

عـبـث “الـغـريـب” ما الحاجة للوضوح والإقناع في عالم لا مكان فيه للوضوح والمنطق؟!

قد يكون تساؤلاً عبثياً، لكنه يخفي في زواياه الكثير من المشاعر الكامنة والرغبة الملحة التي تجتاح النفس الإنسانية الباحثة باستمرار عما يقنعها ويتجلى بوضوح أمامها..
وقد توحي العبثية أو اللا منطق واللامعقول، كاتجاه أدبي، بالسوداوية أو العدمية، لكنها إنما تقوم في جوهرها على البحث عن الحقيقة الإنسانية ومحاولة اكتشافها وفهم منطقها ومعقولها، حتى لو اعتمدت المواجهة المباشرة مع هذا المنطق والمعقول، فتتعمق في النفس، وتوغل في سبر تفاصيلها وجزئياتها للوقوف على مختلف هواجسها وتصرفاتها، وخاصة اللامعقولة منها، في محاولة لفهمها وفهم أسبابها ودوافعها وانفعالاتها.
نحا ألبير كامو عبر مختلف أعماله الأدبية نحو العبثية كاتجاه أدبي مختلف يثير في المتلقي الكثير من التساؤلات والأفكار والمشاعر الوجودية المختلفة، وأكثر ما تجلى ذلك في “الغريب” الرواية الأدبية الخارجة عن المألوف في الفكرة والمعالجة الروائية..
“ توفيت أمي اليوم وربما بالأمس، لا أدري”..
هكذا يبدأ كامو روايته بطريقة تستفز القارئ وتثير دهشته، فعدم اكتراث “مورسول” بطل الرواية لموت أمه كانت البداية لأحداث كثيرة رغم صعوبتها وقسوتها إلا أنه لم يبد تجاهها أي انفعال أو ردة فعل، وكان التعبير الوحيد الحاضر للبوح به “كل الأمور عندي سواء”، وكأنه غير معني بأي شيء في الحياة، يحضر جنازة أمه دون أن ينتابه أي حزن تجاه فقدها، يمارس حياته الطبيعية يومها وكأن شيئاً لم يكن، هو لا يحب ماري هذا ما صرح به لها، ومع ذلك لا فرق عنده إن تزوجها أم لا عليها هي أن تقرر، يخرج مع أصدقائه في رحلة فيقتل عربياً لمجرد أن رآه يحمل سكيناً، وحينما يريد أن يجد سبباً لذلك يبرر جريمته بأن أشعة الشمس الحارة أزعجته، وضايقته رؤية السكين تلمع في يد الرجل فاضطرب وقتله بدم بارد وبخمس رصاصات..
تتوالى الأحداث فيدخل الرجل السجن وتبدأ جلسات محاكمته، خلال المحاكمة يحاول كل من في المحكمة، حتى محاميه، معرفة السبب الذي دفع مورسول لارتكاب جريمته دون جدوى، وتتوالى الحوارات لتذهب به إلى حدث وفاة أمه وعدم اهتمامه لوفاتها وعدم إبداء أي مشاعر لفقدها، وكأن المحكمة أرادت إدانته على عدم حزنه لوفاة أمه أكثر من إدانته على الجريمة التي ارتكبها، لترتأي في النهاية أن مورسول بلا مبالاته وعدم اهتمامه يشكل خطراً على المجتمع وتحكم عليه بالإعدام، حتى هذا الحكم استقبله مورسول بكل رضا وسعادة مقتنعاً بمصيره، فما جدوى الحياة في عالم لا يشعر بالانتماء إليه،  “لم يكن متأكداً من أنه حي لأنه يعيش كالميت”.
استطاع الروائي أن يجمع بين السرد والتشويق والدهشة  بلغة واضحة مقنعة مباشرة ابتعد فيها عن التحليل والتبرير، مستخدماً ضمير المتكلم فجاء الحدث أكثر شفافية وصدقاً، عبر امتداد زمني  يصل الماضي بالحاضر ما أعطى الأحداث صفة الديمومة والاستمرار..
نجح كامو في نقل مشهدية مختلفة للإنسان، فكان بطله غريباٌ في تعاطيه مع الحياة ومواقفها لدرجة تثير الكثير من الكوامن والتساؤلات: لمَ كل هذه الغرابة، وأين نحن من هذه الغربة التي يعيشها، هل نحن الغرباء أم هو، وهل تستحق الحياة منا كل هذا الاغتراب، تضعك غرابة هذا الرجل في مواجهة مباشرة مع نفسك بكل مكنوناتها وأحاسيسها، فتتوه داخل متوالية لأفكار تبدأ ولا تنتهي، في بحث وسعي حثيث لاكتشاف ماهية مشاعرنا، ماخفي منها وماظهر، ما اغترب منها وما كان طبيعياً، في إعادة بناء داخلي ضمن تجربة شعورية مختلفة.
كثير من المحللين رأوا أن كامو أراد أن يعبر عن نفسه في هذه الرواية، فكثيراً ما ظهرت أناه الشخصية فيها، وكان صوته يعلو في بعض الأحيان ليطغى على صوت غريبه، “مادام ليس عندي شيء مهم أقوله فإني أفضل التزام الصمت”، “إن عدالة الناس لا أهمية لها وإن عدالة الله هي كل شيء”، حيث ضمنه الكثير من أفكاره في تصوير حقيقي لذاته ولذوات الكثيرين في زمانه، في تعبير عن رفضه للمجتمع الذي يسوده الظلم واللا منطق، هو موقف صريح ومعلن بالغربة عن المجتمع والإحساس بعدم الانتماء إليه.
رغم مرور عقود على إصدارها الأول، مازالت رواية الغريب تخضع للدراسة وللعديد من التفسير والتأويل حتى يومنا هذا، فرغم غموضها وعدم طرحها المباشر لمقولتها الأساسية، ولعل هذا ما يميزها، إلا أنها من أهم الروايات التي اكتسبت صفة التجدد المستمر.
صدرت الرواية  للمرة الأولى عام 1942،  ترجمت لأكثر من 60 لغة مختلفة، حاز كاتبها على جائزة نوبل للآداب عام 1957، ليتوفى بعد ثلاث سنوات من حصوله عليها إثر حادث سيارة، وكان قد علق في أوائل حياته الأدبية: “إن أكثر موت عبثي تخيلته هو الموت بحادث سيارة”.
هديل فيزو