ثقافة

“وماذا عن المستقبل الغني”.. توثيق الحياة عبر الأدب

شأنها شأن الكثير من الكتاب والمفكرين, كانت ماري ندياي الكاتبة والروائية الفرنسية، تعرف وتدرك أن فرنسا راحت تنزلق بعيداً عن القيم والمثل الديمقراطية التي صنعت مجدها. فالثلاثية “إخاء, حرية, مساواة” التي تعلو واجهات المباني العامة في مدن وقرى فرنسا وسفاراتها, والتي جعلت من فرنسا بلد الحريات, أصبحت الآن في خبر كان, وجزءاً من أوهام الماضي البعيد فعلاً.
لم يكن هناك شيء يهيئها للكتابة, والتي يشبهها النقاد الفرنسيون بـ: فولكنر الفرنسي أو دوراس, فقد عاشت في الضاحية الفرنسية منذ ولادتها عام 1967, لأب سنغالي وأم فرنسية, ولم تؤهلها تربيتها البرجوازية التقليدية لتصبح كاتبة, إلا أنها أدركت مبكراً أن مستقبلها يتجه نحو الكتابة, فهي تمارسها منذ سن الثانية عشرة, حيث نشرت كتابها الأول “وماذا عن المستقبل الغني”.
الكتابة متعة, هذا ما قالته في حوار نشر سنة 1987 بمناسبة صدور روايتها الثانية التي تحمل عنوان: “كوميديا كلاسيكية”، حيث نجحت في جعل متعة الكتابة تمتد وتطول – بجملة واحدة في سبع وتسعين صفحة- إلى درجة تتقطع معها أنفاس القارئ, ولكنها نجحت في كتبها اللاحقة: “المرأة التي تحولت  إلى غصن مقطوع 1989 – الأسرة 1991″. في فرض قصصها الغريبة والمثقلة بالغم والكرب ببراعة فائقة, مستخدمة عبارات منمقة ورشيقة أدبية نتيجة خصوبة وسعة خيالها. جعلت منها كاتبة فريدة في أوساط الأدب الفرنسي  المعاصر وحظيت باهتمام النقاد الفرنسيين.

تحكم قوي في السرد
نشأت ندياي في الريف الفرنسي واهتمت بالكتابة منذ صغرها, واتسمت كتاباتها بالواقعية وبتلميحات ذكية وحصلت على جائزة غونكور عام 2009 عن روايتها ” ثلاث نساء قويات” والرواية المشار إليها تروي سيرة ثلاث  نساء تجرأن على مواجهة العبودية والذل, وأثبتن وجودهن وحريتهن، فقد بلغت مؤلفات ندياي عشرة كتب, من بينها روايتها الشهيرة “روزي كاري” الحائزة على جائزة فمينا 2001, ومسرحيتها المدهشة “أبي يجب أن يأكل” التي سمحت لها بدخول قائمة مسرحيات دار “الكوميدي فرانسيز” المرموقة. ويمكن تمييز عملها في ارتباطه بعالم مفكك تسكنه كائنات على شفا الهاوية, فشخصياتها تائهة, تسير على الدروب الوعرة لعالم خرافي, لا روح فيه, منها من يبحث عن أخ (روزي كاري) أو عشيق “أبي.يجب أن يأكل” أو عمة غريبة الأطوار  في “الأسرة” وهذه الشخصيات تعيش – في بعض الأحيان – ظروف الموت والتحول, قبل أن تتبين لها تفاهة ما تبحث عنه. وفي المقابل تظهر في طيات كتاباتها, التي تدور حول تأمل وبحث عقيم, قصة خيالية عن المجتمع العصري, وبلمسات سريعة دون أن تقطع خيط السرد المتحكم بامتياز, تقوم الكاتبة بمحاكمة مجتمع ما بعد الثورة الصناعية, حيث يواكب التدهور الأسري تجرد الأشخاص من إنسانيتهم.
وبما أن التيه عقيم والهوية قابلة للتحول إلى ما لا نهاية, فإن كتابة ندياي تسعى بالاستناد إلى جمال الأسلوب ومحاكاة الخيال إلى البحث عن علاج الفوضى المستشرية قي العالم, وعليه فإنها تقدم في كتابها الأخير “سيرة ذاتية فاضحة” سنة 2005, متخلية عن العادات التقليدية في سرد السيرة الذاتية, كما يوحي به العنوان, تقدم نبذة عن نفسها, في العمق مستعينة بنساء ” فاضحات” هن أشبه بالخرافة من ناحية, وشبه حقيقيات من ناحية أخرى, وعبر التطرق إلى أشكال مزاجية مقلقة لمنظر الطبيعة قبل العاصفة, وفي حديثها يعتبر ضمير “أنا”  شخصاً آخر بالطبع.
وغني عن البيان يمكن القول إن هذه الكاتبة تطرح تحدياً في الأدب الفرنسي, فنراها تارة تتصرف ببنية النص السردي وبأبعاده الدلالية العميقة – تصرّف المتمكن والمتبحر من التراث الأدبي, إلى ذلك فإن عظمة الكاتبة ندياي الفنية, في إقحامها في خضم الحكي, أعراضاً ( ظواهر, تحولات…), تلاعبها بقواعد الواقعية لتجعلها أكثر تعقيداً, أكثر شدة وتعتيماً. قد يصل بها الأمر حتى إلى تغيير جوهرها, وهي تغوص كل مرة في سرد التمزقات, الأغوار, التي تشبه فوهات تسمح بولوج الحياة الداخلية الأكثر عمقاً لتلك الشخصيات. ذلك المكان الدقيق عن الوصف للكائن, حيث يصبح علم النفس متجاوزاً ذلك المجال الحميم, الموحش, البدائي, العنيف, المسموم, حيث تنفطر الجروح الأصلية, هنا في هذا البعد الخفي العصي عن الملامسة, من التجربة الإنسانية, تبحث دائماً ماري ندياي التي تتسم بصفاء ذهنها, نقاء سيرتها, صدق موقفها السياسي, عذوبة أدبها وغنى تعبيرها الروائي, هناك تدعونا مرة أخرى حيث يبدو على مر صفحات كتبها, إنها تجرد شيئاً فشيئاً حكيها من صبغته السريالية دون أن تفقد مع ذلك شيئاً من قوة إيحاءاتها, من حصانتها المنيعة, تجسّد, تحت غطاء أسلوب مخملي ناعم, دون أن ترفع من نبرته, في سهل ممتنع، رؤية غاية في الدقة ملموسة وقورة ومؤلمة للبشرية جمعاء.
إبراهيم أحمد