ثقافة

كونفوشيوس والمنهج الاستدلالي

محي الدين محمد

حين يهتز سطح الذّاكرة ويعبر من خلالها المبدعون في مناجاةٍ متعددّة ولا سيّما أقاليمهم الداخلية المتوترة لا بدّ لهم من تجاوز المنعطفات في مذهب تعبيري جديد، ولغةً يحتاجون معها إلى العقل الباطني الذي يرسم اصطلاحات خاصة، يستوعبون معها تلك الصدمة المعرفية التي تفاجئ حركة النهوض الثقافي في أيامهم وقد تلاحقهم حتى في الزوايا الضيقة وصولاً إلى العالم المترامي على اختلاف الأماكن والحدود.. وإذا كان المنهج هو الطريق إلى الكشف عن الحقيقة والكون والطبيعة وما فيهما من أشياء، إضافة إلى الأحياء أيضاً والعلوم العامة التي قد يشتغل بعضهم عليها ضمن قواعد عامة توصل عمليات الذهن إلى النتيجة المرجوّة.. فإنّ الفيلسوف /كونفوشيوس/ قد ابتكر منهجه في كل العلوم المختلفة، ووصل إلى رتبة المعلم وحيداً في زمنه رغم ادعاء رجالات السياسة المعنيين بإدارة البلاد أنه لم ينجح في إدارته حين عين وزيراً للشؤون العامة، وللعدل، ثم رئيساً للوزراء فيما بعد.
وأظن أن هذا الرأي قد مال إليه الذين أصابتهم الغيرة، وضربهم الحسد جراء القدرة العقلية التي استطاع عبرها (كونفوشيوس) أن يقف على المنهج التجريبي، والتاريخي، والجدلي والاستدلالي.. إنهم الخصوم الذين لم يتمكنوا من تلمس الأثر الواقعي للنص الفلسفي الذي شكل مرايا تعبيرية مضيئة في المقاطعة الصيّنية (شانتونغ) التي ولد فيها وفقد أباه وهو في السّنة الثانية من العمر – ورغم فقر أمه في جيبها ومائدة إفطارها، إلا أنها وجهته ليكون علامة أخرى في محيطه الاجتماعي وهو يعاني من العوز والحاجة والمشقات الكثيرة التي ألزمته بالأعمال المتواضعة في مرحلة العمر المبكرة..
وقد كتب يقول: “عندما بلغت الخامسة عشرة روّضت عقلي على الدّراسة والتّعليم والمثابرة على قراءة ما يهمني في الشؤون العامة، وما يتعلق بالحكم، والإرث التاريخي، والعلوم الرياضية وحتى الموسيقا، والألوهيات القائمة على العدل والمساواة..
وتعترف له قارة آسيا التي تمتد على مساحة أربعة وأربعين مليون كيلومتر مربع أي أنها تشكل أكثر من ثلث مساحة الكرة الأرضية بأنه يشكل رأس الهرم الأخير حيث دلّل في سلوكه العام على إنسانية الشعوب وحضارة الأوطان..
لقد تنقل كونفوشيوس في مناصب كثيرة أهمها ما ذكرناه في المقدمة ولا سيّما وزارات الشأن العام في مقاطعته الصينية (إلو) وقد اختفى في فترة حكمه الفساد والخيانة، وانعدام الأمانة. وهذا ما جعل بعض الحكام يخافون على مواقعهم إذا ما بقي يمتهن نظافة الكف واللسان في إدارته نظراً لنزاهته ورجاحة عقله، وامتلاكه الرؤية المستقبلية في عشقه للبحار المليئة بالأمن رغم جنون العواصف..
لقد قيل عن كونفوشيوس “إنه جامعة مكونّة من شخص واحد.. ورغم أنه لم يوفق في زواجه المبكر إلا أنه استطاع أن يبتكر في تجلّياته ثقافة الصين العلمية التي سار على منهجها فيما بعد (ماوتسي تونغ) في ثورته الثقافية التي قام بها عام 1949 رغم ما يفصل بين الثورتين من أزمنة طويلة.
وفي المقاربة بين كونفوشيوس وبين (متسيوساكو) أحد مؤسسي نظرية الأوتار الفائقة في الفيزياء والذي اعتمد في تحليله على تقسيم التقدم العملي إلى ثلاث ثورات هي الثورة المعلوماتية – والثورة البيوجزئية وثورة الكم في عصرنا الجديد. ومن خلال عمليّة التلاقح بين الثورات الثلاث نستطيع القول: إن كونفوشيوس قد تفوق أكثر في نظرياته العلمية والفلسفية، وتمكن أن يحقق عبر سلوكه الشخصي نصاً إبداعياً على الصّعد كلّها مختزلاً عوامل الضيق، والأبعاد الثقافية كونياً – حيث ولدت/انجازاته المتشعبة في مجالات العلوم كلها ولا سيّما الفلسفي منها في دائرة الحياة الواقعية ودللّت عليها أصدق النتائج التي كانت صورة لظواهرها والتي أجاب فيها /كونفوشيوس/ على كل صرخات الألم في زمنه، وجددّ ترانيم الفرح في كل البيوت كقارئ مثالي خبير بطبيعة المجتمعات، ولديه القدرة على فهم الفجوات التي جعلته يتذوق نصه، ويمضي به في خطوط سردية تقوم على حرارة الصّورة التي امتحن فيها انفعالاته تجاه المجتمع الذي انتمى إليه، بلباس أممي قلمّاً وصل إليه حتى أصحاب العقول الكبيرة في عصره.
لقد لامس /كونفوشيوس/ في تجربته الشقاء الإنساني على المستوى الجمعي ووقف على غربة المجتمعات بنوعيها الداخلية والخارجية، واستطاع أن ينجز عالمه الكبير بعيداً عن دور المال والمواقع السلطوية، فصرخ بصوت عالٍ لأجل الإيمان والدفاع عن المحرومين ولأجل هذا قاضى كل الحواجز المعرقلة في حياة الخائفين على المصير، وعاقرت كفاه في تطلعه إلى الألق الذي قد تخبئه الأسرار المدفونة في وجع النّاس من حوله، بحثاً عن الحياة الراقية التي تدفع بالبشرية خطوات بعيدة إلى الأمام.