ثقافة

“مدن بطعم البارود” أوراق تروي الحرب وحكايات الشهداء

لم تكتب بشرى أبو شرار الروائية الفلسطينية المقيمة في مصر رواية تقليدية من حيث الحبكة والسرد والامتداد الزمني والتنوع المكاني والتغييرات الطارئة على رحلة الشخوص، فروايتها”مدن بطعم البارود” الصادرة عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب- اختزلت وقائع سنوات الحرب السورية على مدى جغرافية سورية من خلال حبكة متعددة المسارات، وعتبات مختلفة للسرد تصل إلى كل المدن والقرى التي غدت بطعم البارود، لتروي حكايات الشهداء وأسرهم، ولتنتقل بمباشرة بين أشلاء الجثث والأعضاء المبتورة وحركة المشافي والحصار ورصاص القناصين الذي استقر في قلب أحبة كانوا ضحية الغدر، ولم تقتصر براعة السرد الممزوج بعبق شعري لما يحدث في سورية فقط، إذ امتد كما امتدت العمليات الإرهابية  إلى العراق ومنها إلى القاهرة ثم اليمن، من خلال تقنية الاسترجاع لتداعيات وخواطر وذكريات ونواقيس خطر تعيشها البطلة وتقرؤها بصوت مرتفع لتدونها على متن صفحات الرواية، لتتماهى مع الواقع الذي تعيشه بالعودة باقتضاب إلى حياتها مع ابنها وزوجها وهي على فراش المرض.
عنصر التوثيق الأدبي والإعلامي في الرواية المضاف إلى التوثيق المكاني لمواقع الاشتباكات والهجوم يثير الاهتمام، إذ بدأت بتدوين مقتطفات مما كتبه فايز أنعيم وناصر قنديل وعذاب الركابي ووليد محمد خميس ود. نزار بني مرجة” هو دم نازف من شراييننا والأوردة عمر بأكمله” وماجد أبو شرار وآخرون، تتمازج كلها مع التضمين الخفي الذي تعيشه المرأة جراء آلام الفقد والضياع والانكسار العاطفي والوحدة ، ذكريات الطفولة وصورة الأب التي تبقى في المخيلة مهما كبرت مسافات الفراق.
خطوط جمعتها بشرى أبو شرار بوحدة سردية كبرى تتفرع عنها وحدات سردية تناولت حقبات مختلفة من التاريخ والبطولات والأعلام، وتمكنت من توظيفها كاملة ببراعة نتجت عن تراكماتها الثقافية والسردية ضمن الأحداث التي مضت وفق مسار تقنية الصوت الواحد الذي يحكي عن كل الأصوات. والملفت أيضاً الدافع المثير لدى المتلقي للمتابعة بشوق لما تتضمنه الصفحة التالية من سردية جديدة.

أحبة غابوا
تبدأ “أبو شرار” من الذات”كم أنت سريع ياهذا الزمن، عدوت بي وأنا ألاحق الوقت لأصل إليك.. كبر الولد.. كبر الحلم، وتلاشيت أنا فيما تبقى من الوقت” ص19
وتتابع تداعيات الخواطر السردية عن أحبة استشهدوا ولم يعودوا ضمن خارطة الحياة من صفوح الذي غاب إلى ميرابو عاقل الذي أخذته قافلة الشهداء بعد أن كبّد الإرهابيين خسائر فادحة في دوما ومحيطها، إلى نمر الذي حدّث أمه قائلاً “كنت أتوقع الموت يا أمي، نقاتل لأجل الوطن، لا نهاب الموت”ص 43، إلى علي نظير خزام بطل قريته تهيم روحه فيها، إلى غيث صالح وقرية المشاهدة في دير الزور الذي أصيب بكمين مفاجئ.

سير الأحفاد
تصل الروائية إلى سير الأحفاد الممتدة للأجداد كحكاية أبي علي التركي الذي التحق بالخدمة الإجبارية في الجيش التركي، ليعود ويجد الفرنسي فحارب مجدداً ببندقيته الألمانية، إلى أنيس أحمد الذي شارك بتحرير الجورة وتابع مع رفاقه لطريق الجبيلة فإذا بطلقة قناص على العمود الحديدي تناثرت شظاياه في عينه ففقد بصره. كما تطرقت الروائية إلى معاناة الأطفال الذين أصبحوا أيتاماً بعد أن قتل أفراد داعش عائلاتهم “هل تعدني يا عمو إن تقابلت مع من يقولون “الله أكبر” أن تقتلهم جميعاً”.ص 58.

صورة الحرب
وفي غمرة الحزن تسترجع الروائية عبر “الفلاش باك” ذكريات الطفولة التي عاشتها زمن الحرب مع والدها وتجد نفسها إزاء الصورة ذاتها من جديد وتكرر المفردات ذاتها “لم تلصق هذه الشرائط يا أبي؟ هل حان الوقت وأعود أقبض على ذات البكرة وأطوق الزجاج بها” ص59
توقفت أحداث الحرب السورية في الرواية عند مفاصل هامة مثل الهجوم من قبل الإرهابيين على منطقة الكباس في محاولة جديدة لدخول دمشق، فعملوا على حفر الأنفاق “شيمتهم غدر وخيانة حوصرت الكباس أخذوا الدخانية وتمركزوا في أعالي البيانات بقناصاتهم” ص68 لكن الجيش منعهم من تنفيذ مخططاتهم، ومن مدخل دمشق إلى المدن التي امتد إليها الإرهاب إلى العراق والقاهرة.

تدمر ومعلولا
ومن معاناة السوريين في مخيم الزعتري امتد السرد الروائي إلى فلسطين إلى إذاعة دمشق والرسائل الصوتية للأهل في حيفا، وصولاً إلى معاناة المسيحيين وما تعرضت له معلولا، ومن معلولا وجدت جسراً لتاريخ الملكة زنوبيا ملكة الصحراء لتصل إلى خالد الأسعد عاشق زنوبيا عاشق الحضارات الذي لم يغادر تدمر “فكان ذبحه وتعليق جسده على أعمدة تدمر ليلتحق بصانعي الحضارة” ص109 إلى درعا إلى إدلب التي ستعود إليها المصابيح وإن صارت بطعم البارود، إلى حلب التي وقف الجيش فيها وواجه غرباء الوطن “قوقاز- شيشان جميعهم في سهل الغاب يتربصون للجيش في ساحات الغدر” ص 155
ومن حكايات مدن البارود تصل الروائية إلى حكاية بدأت منذ عقود إلى العدو الصهيوني الغاشم إلى وطن وردة فلسطين إلى لمياء السراج أنشودة غزاوية.

سمير القنطار
في الصفحات الأخيرة من الرواية عادت الروائية إلى الأحداث الأولى لتغلق خطوط الحبكة، فعائلة صفوح رحلت عن حلب وبقي هو يحتضنه تراب حلب، وعادت إلى كتابات د. نزار بني مرجة وفايز أنعيم الذي كتب عن الشهيد سمير قنطار “لسمير القنطار كتاب لا يشبهه أي كتاب تظهر على غلافه ملامحه العصية وكلمة من حروف تحمل عمق المعاني” ص225

شهداء سورية والجزائر
وتتساءل الروائية “هل يستدعي شهداء سورية شهداء الجزائر؟ كلما طويت صفحات روايتي تأتيني عاصفة من برق تنداح العتمة إلى نور يطل الشهيد” لتنهي روايتها بقولها “متعبة أنا من روح أنهكتها عبثية الوجود”.
جاءت الرواية في (256) من القطع المتوسط.
ملده شويكاني