ثقافة

د. فاعور تدعو لإعادة فنّ التوقيعات إلى المراسلات الحكومية

ضمن الفعالية التي أقامها المعهد العالي للغات احتفاء باليوم العالمي للغة العربية ألقت د. منيرة فاعور أستاذة البلاغة في جامعة دمشق –كلية الآداب-ورئيسة قسم اللغة العربية في معهد اللغات محاضرة عن “فنّ التوقيعات” الذي يعدّ فنّاً شائقاً من فنون البلاغة وأسرارها، ويعرّف بأنه عبارة بليغة موجزة ومقنعة يكتبها الخليفة أو الوزير كرد على رسائل تتضمن قضية ما أو مسألة أو شكوى أو طلب، امتازت بخصائص الإيجاز ودقة التعبير ومتانة التركيب وإحكام الصياغة وزُيّنت بالمحسنات اللفظية والمعنوية، وتطرقت موضوعاتها إلى النواحي السياسية والاجتماعية والدينية.

كنّ لرعيتك كما تحبّ
في بداية المحاضرة عادت د. فاعور إلى بدايات ظهور فنّ التوقيعات الذي تزامن مع عهد الخلفاء الراشدين منذ أيام الخليفة أبي بكر الصديق، فهو أول من استعمل التوقيعات في تاريخ الأدب العربي وفي التاريخ الإسلامي، وكما أشارت فإن التوقيعات التي وصلت إلينا قليلة لا نستطيع أن نبني عليها حكماً أدبياً. وقد استخدم الخليفة عمر بن الخطاب هذا الفنّ في مكاتباته لرجال الدولة من ولاة وقواد، كما في توقيع كتابه إلى عمرو بن العاص “كنّ لرعيتك كما تحبّ أن يكون لك أميرك”.
ونتيجة التتابع التاريخي تبلور هذا الفن في العصر الأموي وغدا فنّاً أدبياً إذ اعتاد كل خليفة أموي أن يوقع على الرسائل التي تردّ إليه. وتطورت التوقيعات أكثر في العصر العباسي وأصبحت تطلق على تلك الأقوال البليغة الموجزة المعبّرة التي يكتبها المسؤول في الدولة أو يأمر بكتابتها على ما يرفع إليه من قضايا أو شكايات.
أما عن ماهية التوقيعات فأوضحت د. فاعور بأنها قد تكون وليدة الساعة أو آية قرآنية تناسب الموضوع أو حديثاً نبوياً شريفاً أو مثلاً سارياً أو حكمة صالحة لكل زمان ومكان، وأوردت عدة أمثلة منها ما وقّع به جعفر بن يحيى البرمكي في قصة مستمنح كان قد وصله مراراً “دع الضّرع يدر لغيرك كما درّ لك”.

قوة المنطق
وفيما يتعلق بسمات التوقيعات المتمثلة بالبلاغة بأن يكون التوقيع مناسباً للحالة، والإقناع مما يحمل الخصم على التسليم بها من قوة المنطق وبراعته وفي الوقت ذاته يقطع عليه عودة المراجعة، والإيجاز، ويتضح بألفاظها المنتقاة وجملها القصيرة ومعانيها الواضحة والمؤثرة والنافذة إلى القلوب، ويتخذ شكل الإيجاز بالقصر ويدل على مهارة الموقّعين وبراعتهم في تخيّر الألفاظ، وفي تحسين أدائها وشحنها بالمشاعر والأفكار والآراء المتنوعة فتجود الألفاظ القليلة بالمعاني الكبيرة، ويكون الإيجاز بالقصر بكلمتين كما في توقيع المهدي في قصة رجل شكا الحاجة “أتاك الغوث”، وبثلاث كلمات مثل توقيع عمر بن عبد العزيز في كتاب عامل حمص يخبره فيها أنها احتاجت إلى حصن، فيكتب “حصّنها بالعدل والسلام”، والتوقيع بأربع كلمات ما وقّعه عمر بن عبد العزيز في كتاب وصله من أحد عماله “حصّنها ونفسك بتقوى الله” وتوجد توقيعات بخمس كلمات وست كلمات. والإيجاز بالحذف ويكون بحذف كلمة أو جملة كما في توقيع يزيد بن عبد الملك إلى صاحب المدينة “عثْرت فاستقل” أو بعدة جمل.
كما تطرقت د. فاعور إلى الفنون البديعية التي اقترنت بالتوقيعات فأكسبتها جمالاً وبهاءً مثل الجناس ومثاله توقيع الصاحب بن عباد عندما قيل له: “إن دارك يدخلها من هو عين عليك ويعمل لصالح أعدائك” فوقع “دارنا خان يدخلها من وفى ومن خان” ويتضح فيها الجناس التام بين خان الاسم وخان الفعل.
والسجع في قول هارون الرشيد إلى صاحب المدينة “ضع رجليك على رقاب أهل هذا البطن فإنهم قد أطالوا ليلي بالسّهاد، ونفوا عن عيني لذيذ الرقاد” فطابق بين السهاد والرقاد، فبين العبارتين سجع مرصع باتفاق كلمة السهاد والرقاد لأن الفاصلتين اتفقتا بالوزن والقافية.
والموازنة كما في توقيع مروان بن محمد إلى هبيرة أمير خراسان “الأمر مضطرب، وأنت نائم، وأنا ساهر” فطابق بين نائم وساهر، فالكلمتان اتفقتا بالوزن دون القافية للموازنة.
والعكس والتعديل كما وقع يوسف بن القاسم “إن إساءة المحسن أن يكف عنك إحسانه، وإحسان المسيء أن يكف عنك إساءته وابعد ما بينهما”.

العدل والجور
والطباق كما وقع المأمون في قصة متظلم “من عمرو بن مسعدة: ياعمرو، عمّر نعمتك بالعدل فإن الجور يهدمها” ويتضح فيها تزاحم الأضداد وتصارعها، فالعدل يصارع الجور، والفعل عمّر يصارع الفعل يهدم، وتابعت د. فاعور بأن حال النعمة التي تؤسس على العدل وحالها عندما تصيح بيد سلطان جائر، فالأولى تقود إلى الخير والأخرى تقود إلى الشر. وطالبت د. فاعور بإعادة مجد التوقيعات وازدهارها في المراسلات الحكومية قدر الإمكان.
ملده شويكاني