ثقافة

بدوي الجبل.. بين الصوغ التراثي والتجاوز الفنّي

د. وفيق سليطين
من القاموس إلى الصياغة:
من الخصائص المميزّة لشعر البدوي أنه يتجاوز القاموس، بمعنى أنه لا يركن إلى خصائص الوحدات الساكنة، ولا يخضع للقوة الماثلة فيها، بل إنه يتحوّل بها في انتخابه لها، ويتولّى شحنها من جديد. ويعني ذلك أن المفردات تغدو “لديه” أكبر من قيمتها القاموسية، وأقلَّ استقراراً ممّا هي عليه هناك.
ومن صفة الشاعر الحقّ أنّه يخلّص الكلمات – ما أمكن –من حمولتها، ومن قيمتها الاستعمالية. فهو، إذ يستقدم الكلمة من هذا المشترك العام، يشحنها بنَفَسه الخاص، فيجعل منها كلمته هو، لا مجرد مفردة من الثروة اللغوية، أو من الركام المتاح للاستعمال.
الكلمة، في منحى التحوّل هذا، مكوّن شعري يعلو على معناه الخاصّ، ويكتسب قيمة مضاعفة، أو شحنة جديدة، لا تنضاف إلى المعنى الأساسي، بل تدخل معه في عملية تفاعل، تخلخل ثباته، وتكفُّهُ عن الاستقرار.
صحيحٌ أن الشعر يُبنى بالكلمات، لكنّها الكلمات المعّرفة، داخل هذا البناء، بما يتجاوز المحددات اللسانية التي يقدّمها القاموس في أوضاعها المحصورة والمنتهية. ولذلك قلتُ إن بدوي الجبل هو شاعر صياغة لا شاعر قاموس. والفارقُ بين الاثنين هو على غرار الفارق بين الشعر والنظم. خاصية الشعر هي خاصية علائقيه تتعدى الكيانات الثابتة والوحدات المعزولة. أما خاصية النظم لدى شاعر القاموس فتتبدّى في الكلمات المفردة، بما تحوزه من قوّة تنطوي عليها في ذاتها. ويعني ذلك أنها تقوم على الرصف والجمع، في مقابل قيام سابقتها على التفاعل والتداخل والتوليد.
ولعَّل تتبّع استخدام البدوي للكلمات الآحاد يتكشّف عن استثمار إمكانات اللغة في حركة العدول، أو فيما يشير إليه المنظّرون بـ “انخفاض درجة النحوية”، الذي هو علامة البروز الشعري بالتحول من القاموس إلى الصياغة. وهو، في الوقت نفسه، تحوّل من المفردة إلى الصورة، ومن المراهنة على القيمة الذاتية إلى المراهنة على القيمة التجاوزية.
في ضوء ذلك، يبدو لي أن شعر البدوي يتعرَّف، في الأغلب الأعمّ، بخاصيته التركيبية، ويترتب، على هذا الأساس، أنه شعر يعبّر بالكّل لا بالأجزاء. فقد نقرأ تتابعاً لعدد من الوحدات، دون أن يحيل هذا التتابع على فكرة، أو معنى، ودون أن يشير إلى قابلية الانضواء تحت معادل مفهومي. إنه، فقط، يطلق الإشعاعات، ويحرّض الكوامن، دون أن يكون لذلك ترجمة فكرية مباشرة. ومؤدى هذه العملية أن البدوي “يشعرن” السياق، وينقل التركيب من حال المباشرة، أو من منطقة الحياد التعبيري، إلى جهة الأدبية.
ومن خلال هذا التحوّل بالمفردات، والتحوّل عنها – أو بها – إلى أفق الصياغة والتصوير، ينطبق على البدوي ما يشار به إلى الشاعر، من حيث هو خالق لغة وصانع أشكال.

قوّةُ الصهر والتحويل:
تأسيساً على ما سبق يمكن القول إن شعر البدوي، في أنموذجه الأعلى، هو شعر لا يقول باللغة، بل يقول اللغة بالتحوّل عن طوابعها النسقية، وبإرغامها على الدخول في اشتباكات ممتنعة تكسر قوة المعاندة في الأعراف اللغوية. وفي مصهر الشبك والتحويل تتعدّل جوانب العلاقة، وأطراف البناء، بحيث يغدو الواحد منها ذاته وغيره في آن معاً.
لم تعد الدلالة هنا واحدةـ ثابتة. إنها حركة تتجدد بقوة الاحتكاك والمزاوجة الصعبة، فتتكشف عن نتاج دلالي، أو عن احتدام عميق يتفجر في شحنات متغايرة. ومن لوازم هذا الأداء تعليق الوظيفة التواصلية، وكبح التوجّه الخطابي، وتجاوز محدودية المعنى، لمصلحة التحقق الشعري. وتحرير الأثر، وفتح جوانب العبارة على ما ينافي التحديدات اللسانية والبلاغية.
صحيح أن في شعر البدوي قصائد شتى، في غير مكان من الديوان، تتصل بمقومات الإبلاغ، وتدور على الموضوعات الكبرى والأحداث المجلجلة، مما يجعلها تحفل، على نحو ما، بالزخم الشعاري، والرنين الخطابي، والإلحاح على المعنى المباشر في جاهزيات التعبير، ونمطيات التشكيل, لكننا لا نعدم، في ذلك كله، مهارات القول، وحقن السياق بطاقة الانفعال، وبقوة المفارقة التي يترشح منها الشعر. ونحن، إذ نركز على خلاف هذا الوجه، دون التغاضي عنه، نوجه إلى تناول شعر البدوي على مستوى الذرا المتحققة، أو الممكنة فيه، وعلى مستوى ما يفتح عليه من الآفاق، التي تبدو نوياتها مكبوحة، في بعض نصوصه، تحت ضغط السياق التاريخي والأدبي، وبفعل الاستجابة اللازمة لضرورات التلقي، ولأهداف الإثارة والتحشيد.
ومزيةُ شعر البدوي، حتى في مثل هذه النصوص التي ترتكز على الحدث، وتتوجه إلى الموضوع العام، أنه في خروجه إليها، يتوجه بها نحو الداخل، فيصهر وقائعها في أغوار النفس والوجدان، ويخرج من ذلك سبيكة تعلو على الأداء الموضوعي الخارجي، وتشحنه بما ينأى به عن دوائر التعليق والمباشرة.
وغالبا مانلحظ، في مثل هذه النصوص، المقدرة على إنشاء التوازن بين الفن والموضوع، أو بين الشعري والفكري. وهو توازن تحرص عليه الأعراف الكلاسيكية، وتصون حدوده، وتقرر نسبه ومقاديره.
ما نقف عليه، بهذا المعنى، لدى بدوي الجبل من إحكام التوازن من جهة، ومنزع التجاوز من جهة أخرى، ينطوي على إحساس يقظ بجوهر الشعر، على النحو الذي يشير إليه ما لارميه بقوله: “لا يصنع الشعر بالأفكار، وإنما بالكلمات”. وشعر البدوي – حتى في المواطن التي تطفو فيها الأفكار – يلاحظ أنه لا يخلو من بلاغة القول، وقوة الصوغ، بل إن ذلك يأتي مشفوعاً بالفكرة، ومتواشجاً معها، بحيث لا يخلّ بعلاقة التوازن المشار إليها.

هاجس العمق والانفتاح الكوني:
يبرهن شعر البدوي – كلما عاودنا النظر فيه – على أنه شاعر أعماق وأغوار  لا شاعر سطوح وامتدادات. ومن هنا كان شعره لا يفضي بمحتوى يتقدم الصياغة. فهو يتعدل بها ويتخلق، على النحو الذي يقضي بازدواج حركة القراءة في اتجاهي الذهاب والإياب، كما يقضي بقطع الاسترسال ومعاودة الابتداء. ومن ذلك وغيره يبدو أنه يتطلب التأمل مرة بعد أخرى. وفي هذا البعد التأملي، الذي يشد الحركة عميقا، ينجلي برهانه الفني الخاص، بما يعني أن جوهر هذا الشعر يقوم وراء الوصف والتعليق والرصد الظاهري. وعلى الرغم مما يبدو فيه من هذه الجوانب، فإنه يرقى عليها، ويتفلت منها، بما يقوم عليه من تفعيل منطق الخيال، الذي يعبر الجزئي إلى الكلي، والنسبي إلى المطلق، فيضايف بين الحس والتجريد، ويرينا في الوجه المكشوف للشيء أبعاده المحتجبة، واحتمالاته غير المنظورة، كما يقدم لنا اللامرئي في الحدود المقيدة للمرئيات، ويتجاوز، بذلك، شعر الواقعة أو الغرض، ليفتح فيه أبعاداً إنسانية وكونية، تتعداه وتجعله مغموراً في سياقها، ومتحولاً في علاقاتها، ومشمولاً بها، بدلاً من أن يكون حاملاً لها، ومتحكماً بها، ومُلحقاً لها بحضوره المركزي الراسخ الذي يحيلها، آنئذٍ، إلى هامش تزييني، وحلية خارجية، أي إلى بهرجة وزخرف.
وإذا ما أهبنا بقول وليم بليك كان لنا أن نجريه على البدوي، من حيث إنه:
يجعلك ترى عالماً في حبة رمل وسماءً في زهرة برية. كما يتيح لك أن تمسك بالمطلق، وتطويه في راحة يدك.
ومن هنا يتعين كون البدوي مأخوذاً بهاجس العمق، بدلاً من الالتصاق بمظاهر الواقع والاقتصار عليها.
التوحد الصوفي بالكون:
من ذلك ما يلاحظ في شعر البدوي من صور التوازي والتبادل بين العالمين الكبير والصغير، وآيات الاتصال بالسر العميق الذي يوحد المظاهر الكونية، ويقوم وراء حضورها المباشر. والحال أن صوفية البدوي هي مكمن شعري يحفل برؤيا مختلفة للذات والعالم، وهي طريقة خاصة في النظر إلى الأشياء والموضوعات، تكشف عنها في تعالقها الأساسي واتصالها الحي الذي يجوز مظاهر القسمة والانغلاق، وهي، قبل ذلك وبعده، صوفية النزوع إلى رأب صدع الوجود بالحب الكوني الشامل، أي هي صوفية شعرية تعلو على التوجهات الطرائقية، وعلى النظرات الاختزالية، وعلى أشكال التقييد المتعقدي.
على هذا النحو، لا يقف القارئ لشعر البدوي على تداول اصطلاحي يصل بالحقل الصوفي على مستوى الأدوات والقوالب، ذلك أن المكون الصوفي، عنده، يترشّح من عمق الأداء، ومن خصوصيات التشكيل، أي من قوة الإضمار لا الإعلان، ومن صميم التجربة الفنية والجمالية لا من المنطوقات اللفظية والمسكوكات التعبيرية الجاسية، أو المصوحة بهواجر الاستعمال والتواطؤ. وفي قصائد الديوان شواهد واسعة على ذلك، سنشير إلى صور منها في ختام هذه المقاربة.
تعدد مستويات النص:
في الوقت الذي يحضر فيه المؤثر التراثي حضوراً قوياً في شعر البدوي، بحيث يمكن تنسيب نصه إلى الذرا الفنية الرفيعة في الشعر العربي القديم، يلاحظ الحضور الموازي للمؤثرات أو للتكوينات التي تدفع الأثر باتجاه تجاوز المنزع الكلاسيكي ورفده بقيم التحول الفني في صياغات أسلوبية مختلفة يحققها البدوي في ضفيرة واحدة، أوفي سبيكة شعرية خاصة، تتفاعل في داخلها المؤثرات والرؤى الكلاسيكية والرومانسية والبرناسية, ومن هنا كان البدوي، في نظري، يمثل لحظة الذروة والانعطاف في آن معاً. الذروة الكلاسيكية الباذخة، ومفصل الانعطاف المجاوز لتقاليدها الفنية وأعرافها الجمالية.
على مستوى الصوغ التراثي، سأشير إلى بعض الشواهد المستلة من شعر البدوي، في سياق الدلالة على التشبع بهذا الأثر، وعلى قدرة البدوي على مخض تجربة الشعر العربي القديم واستلهامها.
يقول:
إذا انقصفت أسِنَّتنا وصلنا         بأيدينا الأسنّة والصفاحا
وهو ما يحيل في علاقات الصورة والمعنى على قول عمرو بن كلثوم:
وما منع الظعائن مثل ضرب        ترى فيه السواعد كالقلينا
وفي قوله:
وتخفق فـــــي قلبي قلوبٌ عديدة        لقد كان شعباً واحداً فتشعبا
ما يستوي على منوال قول الشاعر القديم:
فلو أنها نفس تموت جميعة        ولكنها نفس تساقط أنفسا
وفي قصيدته الموسومة بعنوان “الشهيد”، اشتباك مع قصيدة أبي فراس الحمداني المشهورة، واستحضار ضمني لها. يقول فيها البدوي:
وما ضرني أسر ونفسي طليقة        مجنَّحة ما كف من شأوها أسر
ونفسي لو آن الجمر مسَّ إباءَها       على بشرها الريان لاحترق الجمر
ويخاطب فيها هنانو:
نماك وسيفَ الدولة الدارُ والهوى        وغناكما أندى ملاحمهِ الشعر
فإن تفخر الشهباء فالكون منصت        وحَقَّ بسيفي دولتيها لها الفخر
وفي سياق القصيدة نفسها يقول:
ويا سامر الأحباب طيف ولا كرى        وسُكر ولا راح وريَّا ولا زهرُ
وهو ما يستدعي قول ابن الفارض:
يقولون لي صفها فأنت بوصفها         خبير أجل عندي بأوصافها علم
صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوا        ونور ولا نارٌ وروح ولا جسم
وفي مكان آخر يقول
يا شاعراً زحم الدنيا بمنكبه        كالسيل يهدأ أحينا ثم يطّرد
وهي صياغة حيكت على قول أبي تمام:
تركت حطاما منكب الدهر إذا نوى        زحامي لما أن جعلتك منكبي
ومن ذلك قوله:
سلاف من الذكرى أديرت كؤوسها        فما شرب الندمان لكنهم عبّوا
على غرار قول ابن الفارض:
هنيئا لأهل الدير كم سكروا بها       وما شربوا منها ولكنهم همّوا
ومن آيات هذا الاشتباك بالصوغ التراثي قوله:
لقد زعم الواشون أني نسيتكم       شروط الهوى ألا تعيرهم أذنا
كقول جميل:
لقد زعم الواشون أن لم أحبكم       بلى وستور الله ذات المحارم
ومنه قول البدوي:
غِرٌّ وأرفـــــــع ما فيه غرارتـــــه        وأنذل الحب – جل الحب – أدهاه
كقول الشاعر القديم:
غريرة خير ما فيها غرارتها        لم تدر ما ضرب أخماس لأسداس
وفي قصيدته التي مطلعها:
أهذي مغاني جلق والمعالم         لك الخير أم هل أنت وسنان نائم
بلى هذه أم العواصم جلّق        وهذي ليوث الغوطتين الضراغم
هنا عرش أقمار العلا من أمية        هنا ارتكزت سمر العوالي اللهازم
يحاكي قصيدة المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم        وتأتي على قدر الكرام المكارم
يقول البدوي:
هنا ابن أبي سفيان أشرق تاجه        تؤيده البيض الرقاق الصـــــوارم
كقول المتنبي:
ومن طلب الفتح الجليل فإنما        مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
وفيها يقول البدوي:
خذي قلّدي ما شئت جيداً ومعصماً        من اللؤلؤ الرطب الـــــذي أنا ناظم
على شاكلة قول المتنبي:
هنيئاً لك الدر الذي لي لفظه        فإنك معطيــه وإني ناظم
وألفت، أخيراً إلى قصيدة البدوي “أطلُّ من حَرَم الرؤيا فعزاني” التي يقول فيها:
ثمّ انثنيتُ وركبـــــــــي جدُّ مُتّئدٍ        من النوى ورفيقي جدُّ حيرانِ
والبيدُ أوسع من صدر الحليم مدًى        وللســــــراب بها آلافُ غُــــــدرانِ
لاحت خيامكِ بالصحراء مُونقة        أبهى وأزينَ من عرشٍ وإيــــــــــوانِ
فَقَرّتِ النفسُ لا شكوى ولا تعبٌ    ولا لجَاجَــــــــةُ إيمانٍ وكفــــــــــــــــرانِ
رأت بعينيكِ يا ليلى وقد يئست    عــــــزاءَها لا بإنجيـــلٍ وقـــــــــــــــــــرآنِ
آمنتُ بالحبّ ما شاءت عذوبتـه            آمنت بالحب فهو الهادم الباني
وكأن البدوي يستحضر هنا قصيدة المنتجب، ويحذو حذوَ الصوفية في تأسيس الخلق والمعرفة على الحبّ. يقول المنتجب:
يا بارقاً لاحَ من أكناف كــــــــــُوفانِ                      هيَّجتَ لي فرط أشواقٍ وأحزانِ
هاتِ الأحاديث عن جرعاءً كاظمةٍ                      فلي فؤاد بهاتيكَ الربا عانــــــــــي
وشادنٍ حسنِ الأوصاف معتـــــــــدلٍ                      ساجي النواظر من أبناء خاقان
أغنَّ أحوى دقيقِ الحضر ذي هَيَف                      يزهو تثنيه مـــن لينٍ عـــلى البان
وافـــــى يحثّ سلافاً مــــــــن معتقة                      عـــذراء تنبيكَ عـــــــن عادٍ ولقمانِ
فللندامى بها سكرٌ ولي أبداً منها                     ومــــــــــن ريقـــــه المعسول سكران
في الوقت الذي نواجه في شعر بدوي الجبل هذا الحضور التراثي في اللغة والأساليب، نقف على المكوّن الرومانسي في النصّ الواحد، وفي النصوص المتعددة، ونبقى تحت سطوة الإحساس بهذا الدفق الغنائي الوجداني، الذي يتبدّى في شاعرية الطير والأجنحة والتحليق ومعاني الطفولة واتّقاد اللهب القدسيّ، ويستوى ذلك كلّه بضربٍ من السبك يُعنى بتحرير الخيال والتحليق به نحو المطلق والغامض واللامتناهي، على نحو ما يطالعنا به تراث الرومانتيكية لدى أعلامها أمثال “بليك، وردزورث، جون كيتس، كولريدج”. وهكذا يفعل البدوي في هذا المستوى الذي تتحول معه الأشياء بكيمياء الخيال، فيبدو المألوف المعتاد عابقاً بالدهشة ومجللاً بالسرّ والغموض، وبناءً على ذلك يغدو الشعر مقروناً بمتعة الكشف وطلاقة الحُلم. وكان التجلي الأبرز لذلك كله ما رسّخته الرومانتيكية عن الشاعر من كونه نبياً يقرأ نصَّ العالم. يقول البدوي:
وضّجةِ صمتٍ جلجلت ثمّ وادعت                     ورقَّت كأخفــــــــــى همسةٍ ودبيبِ
أشمُّ الرمال السمـــــــر في كل حفنةٍ                    من الرمل دنيا من هوى وطيوبِ
ويقول:
خفاءٌ يضجُّ الصمتُ منــــــــــــه وبلبلٌ                 تحدّى ضجيجَ الصمتِ فهو نَغُومُ
ولفَّ الخفاءُ الحسنَ حتى شكا الهوى            وغار حريرٌ مُتـــــــــــــــــــــرفٌ ورُقُــــــوم
شكا الطيرُ من ظلم الأناسيّ واشتكت             ظباءٌ وعشــــــــبٌ فـــــــي الفلاةِ نجيم
فياربِّ لا أقوى مــــــــــــــن الطير عُشُّـــــــهُ                  ولا راعَ أســـــــــــــــراب الظباءِ غريمُ
سنابلُ وفــــــــَّت للطيـــــــــــور زكاتَـــــــــها                   فحنّــــــــَت إليها جنـــــــــــــــــّةٌ ونعـيمُ
تهلَّل عفــــــــو اللـــــــه للذنب عنـــــــــــدما                   أطلَّ عليـــــــــــــــه الذنب ُوهو وسيمُ
ومـن هــــــــذا القبيل ما نجده في قوله:
أنا أبكـــــــــي لليل أوحشـــــــــه البــــــــــــدرُ                   وللقلـــــــــــب هـــــــــــدَّهُ الحــــــــرمان
أنا أبكـــــــــــي للهمّ يأوي إلــــــــــى القلب                    فيقســو علــــــــــى الغريب المكانُ
أنا أبكـــــــــــي لكـــل قيــــــــــــد فأبكــــــــــــــي                    لقـــــــريضــــــــي تغُلّــــــــــُه الأوزان
مــــــــــــــن همـــومـــــــــــــي ما يغمر الكون                 بالعطر ومنها مَزَاهـــــــــِرٌ وقِيَانُ
إلى جانب ذلك، وبتضافر معه، نلحظ في عدد من نصوص البدوي، بروز المعالم والمحددات الخاصة بالبرناسية، كما في الإشارات المشحونة بعبادة الجمال، وبالابتهال في محراب الفن، حيث ينكشف المخلوق خالقاً، يصون جوهرة الإبداع، بل يذهب إلى حدّ تمجيد الغواية في صدع مقاييس العقل الذي مجّدته الكلاسيكية، وفي قلب علاقات التراتب المشيّدة على معيارها. ومن ذلك قول البدوي:
تفجّر الحسنُ في دنيا ســــــــرائرنا                هـــــــــل عند ربّكَ من دنيا كدنيانا
حضارة الدهر طيب مـــــن خلاعتنا                وجنـــــــــــّة الله عطر من خطايانا
من الغوايــــــــــــــــة سلسلنا هدايتنا                فكان أَرشَــــــــــدَنا للنــــــــور أغوانا
نشارك الله – جـــــــــلَّ الله – قدرته               ولا نضيـــــــــق بـــــها خلقاً وإتقانا
وأين إنسانه المصنوع من حمأٍ              ممــــن خلقناه أطياباً وألحانا
الشاعر، في التوجّه البرناسي، كاهن الفن، وسادن الجمال، لا يني يتعبّد في محرابه. وهو ما يتداخل، عند البدوي، بالنزوع الصوفي، ويغدو وجهاَ آخر له. كما في قصيدته “حيرة النفس”. يقول:
عبدتُكَ فـــي الجمال ولا أبالي             ضـــــــلالُ النفس ذلك أم هداها
ويشير إلى ذلك في موضع آخر بقوله:
حـــــــــبُّ الجمـــال عبادةٌ مقبولـــــــــةٌ             واللــــــــه يُلمــــحُ فـي الجمال ويُعبد
وربما كانت قصيدته “الدمية المحطّمة” مثالاً أعلى على هذا المنزع، يقول فيها:
أيا دميــــــــــــةً أنشأتُها وعــبـــــــدتُها            كما عبــــــَد الغاوونَ منحوتَ أحجارِ
ويا دميةً أنشأتها ثـــــم حَطّمــــــــت            يداي الذي أنشأتُ تحطيــــــــــم جبّار
جمالك من سحري وعطركِ من دمي               وفِتنتكِ الكبرى خيالي وأشعاري
وهذه المستويات المختلفة التي عرضت لها تتلاقى وتتداخل وتتفاعل في ديوان البدوي، ويقرن بعضَها ببعض نسيجٌ خاص، هو أمضى في الدلالة على ما توافر في شخص البدوي من موهبة الشاعر المطبوع ومهارة الصانع الحاذق في آن معاً. وعلى هذا الأساس كنتُ قد أسلفتُ الإشارة إلى استواء البدوي، في شعره، ذروةً كلاسيكية باذخة، وعلامةً بارزة على التحوّل الفنّي في الوقت نفسه، من داخل هذه الوضعية المفصِلية التي يمثلها خير تمثيل، والتي تجعل من شعر البدوي – إذا ما أَهَبنا بتعبير الصوفية – برزخاً يحقق بذاته الواحدة قوةَ التعدد والانفتاح على هذه الوجوه والإمكانات المتغايرة، ويصل بينها، بنفسه، على نحوٍ بالغ العمق والثراء.