ثقافة

ديوان الوجد لهادي العلوي.. بين خزائن القلب وحرائقه

“ديوان الوجد” واحد من المؤلفات الأكثر لطفا ربما وحكمة ودراية في الانتقاء والتحليل والقراءة، من بين مجموعة المؤلفات والكتب البحثية والنقدية والأدبية والفلسفية العديدة، التي قام بتأليفها الباحث والكاتب العراقي “هادي العلوي” 1933-1998، ليجيء “ديوان الوجد” كالحجر النبيل المميز في العقد الذي انتظمت فيه مجموعة قيمة من الكتب، وضعها “العلوي” وهو يعتمد على القصائد الشعرية كمصدر للبحث، في كل مرحلة من تاريخ الحضارة العربية، باعتباره أي الشعر، هو وجدان العرب ومستودع فكرهم ومخزونهم المعرفي والعاطفي، كما أنه أيضا بما تضمنته قصائد الشعراء من وصف للزمان والمكان، جاء بمثابة خريطة طبوغرافية واجتماعية، عُرف من خلالها طبائع الأمكنة والأوضاع الإنسانية والاجتماعية السائدة في كل عصر.
“ الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ” بهذا الحديث النبوي العالي الوجد، يفتتح “العلوي” كتابه الذي يذهب فيه ليقدم ويفسر حالة الحب الصوفي في الفكر العربي، منشأه – تاريخه- أعلامة- دلالته، معناه، وكعادته كماركسي عتيد فإن كل موضوع بالثقافة والتراث العربي هو موضوع قابل للنقد والنقاش المطوّل والإخضاع للنظرية الماركسية عند صاحب “المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة”، حتى موضوع الوجد الصوفي، هو موضوع للنقاش بالنسبة له بشقي الوجد “الحب والحزن”، فالحب لدى “هادي العلوي” نتاج طبيعي لحياة قابلة للتعامل المباشر بين الجنسين، والأكثر من ذلك هو أحد دلائل الحياة الهانئة لدى أي زوجين، وفي مقدمة الكتاب يتناول صاحب “شخصيات غير قلقة في الإسلام”، عدة مواضيع تتعلق بالوجد: الحب، الزواج، الجنس، وكل موضوع ٍ من هذه المواضيع له نقاشه الخاص فيه، فالحب بالنسبة “لهادي” هو الحالة الطبيعية في العلاقة بين الجنسين، الحب بمفهومه العذري والأخلاقي، أو بالمفهوم الروحاني الخالي من الحالة الشهوانية حسب الطبيعة الشرقية، أو حسب المشاعية الشرقية لا حسب الإباحية الغربية التي أعادت استنطاق الإرث الروماني القائم على كراهية الحالة الطبيعية للإنسان كما يرى ذلك “هادي”، الذي قال في الكتاب موضوع المقال: (يستند التفسير الإسلامي للحب إلى مبدأ الشبيه يجذب الشبيه الشائع في الفكر البشري قديمة وحديثه، وكان من مبادئ ديموقوقريطس في تفسير سبب اتحاد الذرات، وهو من هذه الجهة غير صحيح، لأن اتحاد الذرات تناقضي لا تماثلي ونظام الطبيعة يعتمد على التضاد في وجوده وفعله كما كشفته فلسفة هيراقلطيس/التاويين، لكن التفسير في مجال الروح البشري صحيح) وكان صاحب “كتاب التاو” قد ذهب نحو شرح هذه الجزئية في الفكر العربي الإسلامي – بشكل خاص- ووفق الحديث النبوي “الأرواح جنود مجندة”  الذي يتناول الحب كمسألة روحية لا جسدية، فالمراد ليس هو مجرد العلاقة بين ذكر وأنثى، بل بين روح الذكر وروح الأنثى، أو روح الرجل وروح المرأة باستبعاد تدخل الذكورة والأنوثة في علاقة حب تستند إلى تعارف ومن ثم تآلف روحين، وقد لا تشترط بالضرورة تآلف جسدين، حيث لا موضع للتضاد في هذه العلاقة، فلا بد من التماثل لأنها ليست موضوعا للفيزياء، واتحاد الروحين ليس كاتحاد الذرتين لتكوين جزيء ما مثلا، حيث من المعتاد أن يقول المحب لحبيبته في هذا الحال: ولم أر في عينيك غير حقيقتي، أو كما قال “ابن عربي”: (حقيقتي همتُ بها) فالمحب يرى حقيقته في محبوبته فلا تكون موضوعا لضدية بل لندية.
وبالنسبة للموضوع الجنسي، فهو عند “هادي العلوي” يشكل حالة انتقادية إن كان خارج مؤسسة الزواج، لأن “مشاعية” المرأة تعتبر حالة خارجة عن الطبيعة البشرية فالجنس حالة تعبيرية ووسيلة حفظ للنوع البشري، لا مرحلة متجاوزة للطبيعة البشرية و تجنح نحو الإباحية، وهذا الأمر مرتبط ارتباطا ً وثيقا ً بالزواج، وصاحب كتاب “فصول عن المرأة” ينتقد الديانات التي تشرعن الزواج “الضرائري” فهو يراه وسيلة استغلال للمرأة كجسد لا أكثر، ويرى في الزواج حسب العقيدة الإنسانية المحبة الصرفة، حالة حفظ للقيمة الإنسانية و الأخلاقية و الروحية للمرأة.
لن يترك المؤلف القراء كعادته في كل كتاب، دون أن يتحفهم بالعديد من القصائد الغزلية الصوفية، المليئة بالدهشة والإيحاء، بألفاظها البارعة وأفكارها القيمة وصورها البديعة، فالرجل يدرك جيدا كم سيكون تأثير هذه القصائد مهم جدا لشرح مذهبه وتوضيح فكرته، حتى أنه يذهب لأن يقدم العديد من المقاطع الشعرية الصوفية تحديدا هنا، التي ربما لم يسمع بها إلا قلة من الباحثين والنقاد الذين غاصوا في جواهر الشعر العربي كصاحب “ديوان الوجد” الذي يرى أن لغة العذريين صافية، باكية، قوامها الإخلاص والصدق مع المبالغة في تصوير اللواعج والحُرَق، ومنها تومض لحظات تخرج عن مقتضى المألوف، بالرغم من أن المستوى الثقافي للعديد من هؤلاء الشعراء “الوجديين” لم يكن ليساعد بعد في تلك المرحلة، للجنوح في الخيال أو التعقيد في الصورة، حيث يستمسك تعبير الجاهلي والعذري عن حبه ضمن هذا القيد، فيعطينا شعرا قريبا من الشعر الصيني الذي جمعه “كونفوشيوس” في كتاب “الأغاني” وهو كالشعر الجاهلي من غراس ما قبل الكتابة، أقرب إلى البساطة والعفوية والبعد عن التعقيد والجنوح، رغم حالة الفراق بين الوجد الصيني والوجد الجاهلي، فهذا الأخير محكوم بالترحال فأنتج البكاء الخفيف والوقوف على الأطلال، أما الأول وهو الأقدم فمحكوم بالحرب، لذا فإنه أنتج البكاء المر على زوجة تركت لمصيرها أو زوج مجند على جبهة نائية لا يؤمل رجوعه.
“ديوان الوجد” من الكتب التي تستحق القراءة مرة واثنتين وثلاثة، لما فيه من مفاجآت حسية شهية وغنية، ومناخات شعرية صوفيه تغسل الروح والقلب، والأهم هو الآلية الفكرية التي اعتاد “هادي العلوي” أن يقدم به نتاجه الفكري لقرائه، إن كان بلغته العلمية البعيدة عن البهرجة اللفظية والحشو الذي يكاد لا يخلو منه كتاب من كتب هذا الوقت، أو بأسلوبه القائم على التحليل العلمي والمعرفي العقلي، فالعقل ميزان كل حجة وكل مقال، حيث لا يخضع فكر “العلوي” لأي سلطان سوى سلطان العقل، متخليا ونهائيا عن أي نزعة فردية في عمله الدؤوب لتقديم التاريخ العربي وفق نظرته العلمية كما أسلفنا، وهذا بالتأكيد من حسن حظنا كقراء، حيث عانينا ونعاني من المؤلفات التي خاضت في نفس الشأن ولكن تحت وطأة ثقيلة من أمراض ذاك الزمان وكل زمان، إن كانت الطائفية في عدائها البين للعقل، أو الارتزاق الذي كان وما زال من أكبر المزورين للتاريخ العربي ولحقائقه، التي حفظها الشعر على نحو عجيب ومذهل.

تمّام علي بركات