ثقافة

إذاعة دمشق تطفئ شمعتها السبعين.. هواها سوري وأنفاسها الناس سبعون عاما صار عمرها، ومرآتها لا تكذب عليها إذ تخبرها بأنها “أجمل”.

 

بشر وتواريخ وحكايات مرت على إذاعة دمشق، الإذاعة التي بقيت تفتتح صباح السوريين منذ عقود مضت وحتى اللحظة، فما من صباح مر على البلاد منذ سبعين عاما إلا ولإذاعة دمشق العريقة شعاعا من نور في هذا الصباح الفارد جناحيه فوق الوطن، إن كان في رزانتها وأصالتها وعروبيتها، وفي سعيها لتكون الحاضن أيضا لصوت السوريين، كل السوريين، تبث همومهم وتطرح مشاكلهم، الاستماع لنجواهم والرد على رسائلهم، وفي رقي ذوقها الفني والثقافي، الجانب المهم في هذه الإذاعة التي كان لها الفضل بتعريف الجمهور على عمالقة الطرب والفن في العالم العربي، وعلى كبار الشعراء والكتاب، عدا عن كون اغلب المشتغلين في الإعلام العربي والمشترك ولعقود مضت تخرجوا من استوديوهاتها ومن خلف “ميكروفوناتها”.
في الطبقة الرابعة من مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، توجد الأيقونة الإذاعية السورية، تطل يوميا شرفاتها ونوافذها على ساحة الأمويين، ومن طبيعة الحياة التي تمر في هذه الساحة منذ قدم الأزمان وحتى الآن، تعرف إذاعة دمشق كما تعرف سيدة دمشقية واثقة أن الحياة هاهنا تمر كما مرت مرارا وستمر إلى أبد الآبدين، وفي أول غرفة في الممشى المؤدي إلى قلب الإذاعة، توجد طاولة عمل “عماد الدين إبراهيم” مدير إذاعة دمشق، وبعد فنجان من القهوة المرة، بدأ حديثنا عن هذا المكان، ماضيه وحاضره ومستقبله، رؤيته وهواجسه، أسئلته وأجوبته:
< بداية وفي ظل هيمنة وسائل الاتصال الحديثة التي غزت العالم، كيف ترى واقع العمل الإذاعي وهل ترى أنه لا زال له أثره الفعال، وجمهوره المنتظر؟ وكيف حققت إذاعة دمشق هذه العلاقة المتبادلة مع مستمعيها؟.
<<  عيد الإذاعة غداً السبت حيث تتم إذاعة دمشق عامها السبعين.. نعم وبكل تأكيد الإذاعة والعمل الإذاعي عموما قادر على البقاء بألقه وحضوره، وهذا طبعا وفق شروط تحكم العمل الإذاعي في المجتمع الموجود ضمنه، ولكن عموما كلما اقتربت الإذاعة من الناس ومن همومهم وأوجاعهم ومطالبهم وحتى أفراحهم، كلما كانت أقرب إلى وجدانهم. علاقة الجمهور مع إذاعة دمشق علاقة عريقة وفيها احترام متبادل، فالإذاعة بقيت قادرة على كسب ثقته ومحبته خلال عقود خلت، وهذا لم يأت من فراغ، بل من جهد وعمل إبداعي حقيقي، حمل لواؤه قائمة من الإعلاميين والمثقفين والمفكرين والفنانين السوريين. بالتأكيد هناك ظروف استثنائية تجعل الإذاعة هي المصدر الأمثل لتلقي الخبر وشد اهتمام الناس، خصوصا عندنا في سورية، فالبلد وبسبب الحرب التي فرضت عليه، تراجعت فيه العديد من الخدمات الملحة كالكهرباء مثلا، وبالتالي صار الراديو المحمول هو الأكثر استعمالا بين الناس، لكن دعنا لا ننكر أن تقنية الاتصالات التي تتطور كل يوم، جعلت بشكل عام الواقع الإذاعي في العالم كله يتراجع، ورغم ذلك، وحتى في الدول المتطورة التي تمتلك تقنيات عالية جدا أكثر تطورا مما لدينا في بلدان العالم الثالث، لا زالت الإذاعة حاضرة ومازالت مستمرة في العمل.
بالتأكيد هناك العديد من الوسائل من أجل إبقاء الإذاعة الرسمية هي المصدر الرئيسي للاستماع عند الناس، فمثلا رئيس الوزراء البريطاني، لديه أسبوعيا حديث يوجهه عبر الإذاعة البريطانية الرسمية إلى البريطانيين ولو كان حديثا لدقيقة واحدة، أيضا عندما تتعاطى الشخصيات الحكومية مع الإذاعة في تعليقها أو شرحها أو توضيحها لما يهم الناس، فإنها بذلك تدعم دور الإذاعة، ونحن صراحة بحاجة إلى العمل بمنطق المنظومة الإعلامية المتكاملة، (التلفزة، الإذاعة، والصحف)، حتى يبقى لهذه الوسيلة حضورها كما نتمنى ونعمل.
< ولكن برأيك ما هي المشاكل التي تعيق تطور العمل الإذاعي خصوصا في ظروف كالظروف التي تمر بها، ودعني هنا لا أنسى المثل الذي ضربته عن الدور الحكومي تجاه الإذاعة الرسمية؟.
<< أولاً دعنا نتفق أن هذه ظروفاً استثنائية وهي بطريقها إلى الزوال مهما طال بها الزمن، لكن في الظروف الطبيعية عمل الإذاعة هو التواصل مع الناس والعناية بتفاصيله في كل ما يخص حيواتهم، وكلما اقتربت الإذاعة منهم تابعوها، ونحن نعمل على تعزيز هذه العلاقة بتطوير البرامج وتخصيص أوقات أطول للتواصل المباشر مع الناس، أيضا العمل بحرفية على البرامج التي صرنا نشتغل عليها بشكل دقيق، نحن نحاول أن نعيد لإذاعة دمشق ألقها الذي كان، لكي تبقى الإذاعة كما كانت سابقا، فإذاعة دمشق مثلا من الإذاعات السباقة والقليلة التي تنتج أعمالاً درامية إذاعية، وهذا لا تقدم عليه حتى الإذاعات الخاصة، كما أنها تنتج الأغنية التي تصير فيما بعد تلفزيونية من خلال الفيديو كليب، وبالرغم من كل الظروف المادية والضغوط التي تنتج عن هذه الظروف التي يعاني منها البلد ككل ومؤسساته بما فيها الإعلامية، وهي ربما أكثر ما يعوق العمل في فترات صعبة كهذه، ولكن هذا لم يقيد عمل إذاعة دمشق التي لا زالت حتى اللحظة تنتج دراما إذاعية وأعمالاً غنائية محترمة.
< ما الذي تفكرون في عمله من برامج وأفكار أخرى وإذاعة دمشق تدخل عامها السبعين؟
<< نحن منذ اليوم الأول من العام الحالي انطلقنا في دورة برامجية جديدة، ولأول مرة حصل في تاريخ الإذاعة أننا قمنا بإيقاف 27 برنامجاً، ولكن بالمقابل أدرجنا 36 برنامجاً، ضمن خطة برامجية راعت جميع الظروف التي تبقي الإذاعة أطول فترة ممكنة على مدار اليوم تتواصل مع الناس صباح مساء، حيث سيكون المستمع وعلى مدار الساعة على موعد مع البرامج المنوعة الفنية والثقافية والاجتماعية والسياسية، برامجنا صارت اقرب من نبض السوريين وعلاقتنا بهم صارت أكثر قربا واحتراما.
< ماذا ستفعلون في إحياء عيد ميلاد هذه السيدة النبيلة؟
<< نظرا لطبيعة الظروف الأمنية والحالة العامة التي تمر بها البلاد عموما، يقتصر احتفالنا هذا العام على الإحياء البرامجي لهذه المناسبة، حيث سيكون لنا لقاء موسع أكثر مع الناس والعديد من الاتصالات التي ستجرى مع الشخصيات الفنية والسياسية والثقافية.
صوت إذاعة دمشق سيبقى صوت الوطن، وخطابها سيبقى الخطاب الوطني الملتزم بالدفاع عن هذه البلاد ضد أي عدو، وكل في مكانه بما يفعله هو يقدم لأبنائه صك براءة بأنه كان مع وطنه وليس مع من خانوه، وطالما نؤدي عملنا بما يمليه علينا ضميرنا المهني والوطني، فنحن نحارب أيضا، وإذاعة دمشق محاربة عتيدة أيضا للذود عن صباحات هذا الوطن وتاريخه المنيع.
في غرفة أخرى على بعد كلمة من الأستوديو جلس بتاريخه العريق في العمل الإذاعي وتاريخه الطويل الذي قارب الأربعة عقود، عاصر فيها من عاصر من كبار الإعلاميين والفنانين السوريين والعرب “جمال الشيخ بكري” رئيس دائرة المذيعين في إذاعة دمشق الذي حدثنا عن علاقته بهذا المكان وصفته الاعتبارية والشخصية فيه إذ قال: أنا في إذاعة دمشق منذ عام 1983 وكان من حسن ظني أني التقيت بأهم الإعلاميين السوريين ومنهم الأمير يحيى الشهابي الذي كان أول من أعلن إطلاق الإذاعة بجملته الشهيرة “هنا دمشق” في الحقيقة نحن عندما نصف إذاعة دمشق بأنها عريقة، فهذا لأنها تأسست على يد إعلاميين ومثقفين وفنانين كبار، مثل توفيق حسن، سامي جانو،  مروان شيخو، ميشيل قوشقجي، داود يعقوب، عزيزة ادلبي، أمل دكاك، دعد الدجاني، وهناك نجاة الجم التي قدمت برنامج مرحبا يا صباح هي ومنير الأحمد.
هذه الإذاعة قدمت لي الكثير، وتعني لي الكثير، إنها الهواء الذي أتنفسه، وهي البيت الذي أحب ويحبني بصدق.
ذكريات الإعلامي “جمال” التي لا تحصى عن هذا المكان وعلاقته الحميمة التي لم تزدها الأيام إلا ألفة ومحبة، يحكي بكثير من الشغف عن طبيعة العمل الاحترافية التي حكمت عمل الإذاعة وعن خطها الوطني الملتزم الذي جعل كل شرائح الناس تثق بها وبما تقدمه من معلومة.
ومن الجيل الجديد الذي يتم رفد إذاعة دمشق به بين الحين والآخر حدثتنا المذيعة “وعد معلا” عن علاقتها الجديدة نسبيا مع إذاعة دمشق، وعن المزاج العام الذي يرافق عملها: إذاعة دمشق هي بالنسبة لي أكبر من أي وكالة إعلامية، لأنني عندما قدمت للعمل فيها، عرفت أصالتها ومكانتها بشكل أكبر في قلوب الناس، عُرض علي العمل في محطات فضائية، لكن المناخ الأسري والطبيعة الأليفة التي تحكم علاقاتنا في هذا المكان العريق، هي ما يناسبني ويناسب شخصيتي وميولي الثقافية أيضا، التي تعكس في أحد جوانبها رغبتي في أن يصل الصوت قبل  الصورة، التي للأسف باتت هي من يحكم العمل الإعلامي المرئي عموما، وهذه يتحكم فيها المزاج التجاري نوعا ما كما تعلم، وكان شرف لي فعلا أنه تم اختياري من قبل اللجنة المشرفة بعد سلسلة اختبارات، دون أي تدخل لأي واسطة كما يقال، وهذا أيضا من أهم الأشياء التي تميز هذه الإذاعة، إيمانها بالصوت الحقيقي وصاحب الرسالة.
تمّام علي بركات