ثقافة

“تراب ما بيشبه حدا” مراجيح شعرية حبالهـا الضــوء

قلة هم الشعراء القادرون اليوم أن يخترعوا ثيمات قصائدهم الخاصة جدا بهم والمركبة في آن، يخترعونها من لا شيء ثم يقيمون معها حالة حوارية شعرية تكاد من كمالها أن تجسدها وكأنها موجودة وقائمة، حقيقية وتتنفس، من هؤلاء الشعراء القلة، يطل برؤوس حروفه الباذخة الشاعر السوري “عصام يوسف” في مجموعته الشعرية “تراب ما بيشبه حدا” الصادرة في طبعة خاصة للمؤلف.
منذ الحرف الأول في المجموعة يعدنا “عصام” أن ترابه الذي فيه غرس شتلات حبق قصائده وصوره الشعرية الخلابة، سيكون ترابا فريدا ومختلفا لا شيء يشبهه، وهو صادق فيما ادعاه!، وشخصيا أجد أن نتاج “عصام يوسف” الشعري عموما، هو إبداع تجديدي للشعر المحكي الذي استهلك “ثيماته” حد التعب كما يقال، لذا فشاعرنا ذهب ليخترع موضوعات قصائده بنات قلبه، بعيدا عن السائد وفي ابتكار فريد لثيمٍ متنوعة وشديدة الإيحاء والخصوصية، وهذا على الأقل هو المأمول من تلميذ عملاق الشعر المحكي والفصحى في هذا العصر “سعيد عقل”، وإليكم بعض من عناوين “تراب ما بيشبه حدا” والتي هي في طبيعة الحال وعند شاعر حساس ورقيق كنهر هادئ مثل “عصام”، هي الموضوع بكلمة، منها “عِتّال، بَرمة قمر، خصر نهارها، غلط مطبعي، بيّاع، كتاب المي، أركيلي، أباجور، مخابرات، ري بالتنقيط، أيكو، بولينغ، جرح مفكوك، أمن جوي” ومن القصيدة الأخيرة نورد مثالنا عن كون اختراع الموضوع الشعري ينعكس بالضرورة على الأسلوب، الذي يُترجم باللغة الماهرة والصورة الشعرية الرشيقة والموسيقا الدافقة بين دوزان الحروف، التي تصبح عندما يُعمل فيها “يوسف” رهافته، راقصات باليه من ضوء ذهبي على حافة شلالات فضية، تدلقها السماء، يقول عصام بـ “أمن جوي”: “شو ما حكيتي بيعرفوا الأفلاك/بحبك..نطرتك..وين؟ بستناك/انتبهي إذا حدا صوبك جايي/ردي على الشباك بردايي، ولا تقولي يا قمر “مـَ حلاك”/ما بتعرفي إدن السما هي القمر ع درفة الشباك”. حوار شعري عال بين اللفظة ومعناها وشكلها وطريقة سبكها، حتى لكأنها كلمة مجسدة، صورة مرئية، صوت مسموع، لمسات نافرة لكن من الهواء، لتأتي الصورة الشعرية التي تحسب للقمر أذن “درفة الشباك” المتنصتة، وكأنها ضربة فرشاة ماهرة، أنهت اللوحة الشعرية السابقة، بصورة فريدة لم يسبق لأحد أن فكر فيها على هذا النحو!، وهذه واحدة من البدائع التي تزخر بها المجموعة حيث يقدر الشاعر وفي أي لحظة أن يجعل أي شيء حتى لو كان وهما، حقيقياً وجدا.
بالإضافة إلى الصنعة الشعرية والحرفية البارعة التي تبديها قصائد المجموعة والتي تدل على نحات لغة “معلم” كما يقال، أزميله النهر وكتابه السهول، تحضر في قصائد “عصام” الروح العميقة للأشياء، لتجليها في عالمه كما هو يشاء وعلى مزاجه الرائق، إنه يذهب إلى أصل الضوء مثلا أو إلى حقيقة اللون بخفة ودون الحاجة إلى صراخ أو مزاحمة، بل بكل هدوء وفي الكثير من الانسيابية الني تأسر قلب القارئ وتدلل حواسه برفاهية أنه يشارك صاحب هذه الحروف، إحساسه الفريد في كل ما يسعى لإيصاله، إن كان في قصائد هذه المجموعة أو في شعره عموما، وفي الحقيقة أقف حائرا أمام أي القصائد علي أن أختار لأشارككم هذه المتع الحسية النفيسة التي تعتمل بدواخلي، وأنا أقلب صفحات المجموعة الشعرية دون قلب بترك ولو حرف واحد يذهب في شرود!.
إليكم “كزدورا” يقول هذا المبدع: “قومي البسي رح تمِرُق الألوان، تاخدك عالنهر كزدورا/انتبهي!! معن لا تاخدي صورا/يمكن يحس الشوق بالحرمان/ويروح يتقاتل مع البستان”.
“عصام يوسف” كريم في عطائه الشعري على المستوى الفني والفكري أيضا، يبذخ على حروفه وكلماته بالدلال، يحيك لها معان مختلفة، ويشق لأجل عبارته الشعرية مسالك لغوية جديدة لم يخط في دروبها شاعر محكية حتى من الفحول قبل، فعلاقته مع اللغة علاقة إبداع بهلوانية إذا صح الوصف، هو قادر على أخذ الكلام إلى أي اتجاه وفي أي لحظة، دون أن يخشى شردان المعنى في ذهن القارئ، وبعد شبه “دوخة” مع مراجيحه اللغوية هذه، تعيد قراءة أخرى للمجموعة التوازن نوعا ما، حيث تبدو رحابة لغة صاحب “ندى ع زهر البال”  وتنكشف للقارئ تلك المساحات الحسية الدقيقة والواثقة التي تجمع وعلى مبدأ “الرؤية البصرية” الصورة في الشبكية الذهنية للقارئ، لكن ليست بشكل مقلوب، بل كما هي، صافية وواضحة ونقية.
“طبخا محروقا”: “ليش الصخر قاسي على الأحباب/ليشمو متل الدني من تراب؟/يمكن وقت الله جبل طينو/الله سمع دقة قلب الباب/فيها شرد يمكن عرف مينو/والله نسي عجنة الصخر وغاب/وصار الصخر قاسي كتر ما داب”.
لا أدري إلى أي مدى يبدو صحيحا تصدير مشاعر الناقد في القراءة التي يقدمها لديوان شعري ما، حيث أنني وبعد كل قصيدة اقرأها ثم أعيد قراءتها أجد نفسي تلقائيا أجود على ما قرأت، وأقول بصوت مرتفع “الله”، ولعمري ليس عيبا أن يلمس الشعر الدواخل فيلطف قسوتها ويلين الوقت عليها، فلهذا هو موجود، ولهذا خشيت العديد من الأديان والسلطات الشعر في زمان مضى، وذلك لطاقته الإيحائية العالية، ولقدرته على تملك النفوس والاستيلاء عليها، و”عصام يوسف” واحد من الشعراء السوريين المجددين في بنية القصيدة وشكلها ومعناها وموسيقاها الداخلية، وهو في كتابه الفريد “تراب ما بيشبه حدا” لا يشبه أحدا فعلا، كما أنه بارع فيما يفعل، للدرجة التي يكاد الحبر المنتظم كحرف على الورق، أن يسيل ليقول للقارئ تذوق هذا المعنى وشم هذه الصورة، وتنفس هذا الجمال.
لو كان مافي لون شو بيعمل الرسام؟/بيرجع بيخلق كون وبيخترع ورد وسما وقلام/قبل ما تخلص سبع تيام/ وأيضا نقرأ “جرح مقطب”:”من وين فستانك خصر بيجيب!/متل لـ كأن وشي خرم إبري، وخصرك رفيع وبالنظر مبري/وحتى الجرح من جوع عيني يطيب، صار خصرك خيط للتقطيب”.
إن لم يكن الشعر فرادة وابتكار ودهشة وإحساس رهيف وعميق بكل ما هو موجود وماهو غير موجود أيضا، فما هو إذن؟.
تمّام علي بركات