ثقافة

الأغنية العراقية توشّحت بليالي دجلة والفرات المضيئة بالقمر

عندما حققت الأغنية العراقية أبعادها الفنية على المستويين الوطني والعربي، راحت تبثُّ ميراثها الشعبي من كل أطياف اللون الممتع بالنغم العراقي للعالم، حيث انتشر فنانو الطرب العراقي بنكهتهم البابلية والسومرية من أهوار العراق وجباله، تعطّر أغانيهم تلك القصص الواقعية بالفن العراقي، فانضموا إلى فِرقٍ فنيةٍ شعبية، كان أهم ما يُميّزها صورتها الغنائية المُفعمة بالألحان الفراتية والمقامات العراقية الموشّحة بليالي دجلة المضيئة بالقمر والموشّحة بالنخيل، وقد انضم إلى هذه الفِرق الشعبية الغنائية العديد من الفنانين والفنانات العربيات والعراقيات.

وهكذا ظهرت الأغنية العراقية الحزينة والعاطفية بأصوات الرعيل الأول من الفنانين ومن بينهم الفنان الكبير (محمد الكبنجي) و(عبد الرحمن خضر) و(يوسف عمر) حيث غنوا على مقام الصَّبا، والحويزاوي، والحسيني، والسيكا، وغيرها من المقامات العراقية، وفي عام 1952 زارت (أم كلثوم) العراق وغنت في بغداد الكرخ، ثم زار العراق الفنان (محمد فوزي) وأطرب الجمهور بصوته العذب، إلى جانب ذلك شهدت سنوات الخمسينيات حضوراً فنياً عربياً سورياً ومصرياً ولبنانياً إلى بغداد، مثل الفنانة نعيمة عاكف، وليلى مراد، وشادية، ونهاوند، ونرجس شوقي، وأنصاف منير، وفهد بلان، وعبد الحليم حافظ، ووديع الصافي، والفنانة صباح، وفيروز، ومحمد عبد الوهاب وغيرهم.
هذا التواصل في الغناء العربي أضاف إلى التراث العراقي بصمةً جديدةً من الفلكلور العربي، وكما قال الشاعر الكبير أحمد رامي: “لقد وجدتُ في الأغنية العراقية غذائي الروحي، فأنا اليوم ما بين ملاحم أم كلثوم ومقامات الفنان العراقي محمد الكبنجي”.
لقد شهدت الأغنية العراقية في القرن العشرين شهرةً عاليةً بين الجمهور العربي، فاشتهر الفن العراقي في أغانيه التي عكست صورة المجتمع لتنجب كبار الملحنين والشعراء والمغنين والموسيقيين والقراء خلال تلك الفترة، فظهرت مجموعة من الأغاني والمطربين كان لهم الأثر البالغ على قلّتهم، إذ كان (للبستة البغدادية) والريفية المكان المرموق في قلوب المستمعين وعقولهم، وكان لبعض الأغاني سرعة الانتشار والتأثير بشكل ملفت فعُرفت يوم ذاك أغنية (فوق النخل) التي غنتها فرق (الجالغي البغدادي) بعد استبدال كلماتها الأصلية التي كانت تنزيلاً من تنزيلات (الملا عثمان الموصلي)، وهي من نغم الحجاز، عُرفت فيما بعد بصوت الفنان ناظم الغزالي، ولا تزال عالقة في الأذهان إلى يومنا هذا، إذ جذبت قائد الفرقة السيمفونية (مومر) واستهوته ليوزعها توزيعاً (أروكسترالياً) قدّمتها فيما بعد الفرقة السيمفونية العراقية، كذلك أغنية (ربيتك صغيرون حسن) وهي تنزيل أيضاً (للملا عثمان الموصلي) بعنوان (يا صفوة الرحمن سكن فيكم غرامي) وهي من الأغاني التي صاحبت المقام العراقي ولا تزال تُردد على أفواه المستمعين.
ويبرز في ستينيات القرن الماضي الفنان والملحن (عباس جميل) بأغانيه الشجيّة التي أحبّها الناس بشكلٍ مُلفتٍ للنظر مثل (عيون الوسيعة) و(غريبة من بعد عينك يا يمة) و(جيت يا هل الهوى)، أما فاتنة بغداد (عفيفة اسكندر) فقد قدّمت أجمل الأغاني العراقية في تلك الفترة، وغنّت لنوري السعيد “رئيس وزراء العراق السابق” ولأم كلثوم عند زيارتها لبغداد مع محمد عبد الوهاب أغنية تقول:
حرقت الروح لمن فارقتهم
بكيت ومن دموعي غرقتهم
شقال القلب لمن ودعتهم
حرقت الروح..
ولا ننسى الفنان (عبد الجبار الدراجي) المُجدد للأغنية العراقية في تلك الفترة بأغنيته (دكتور جرح الأولي عوفه – جرح الجديد عيونك تشوفه)، كذلك الفنان (صاحب شراد) بأغنية (يا سفانة)، أما الفنان (جاسم الخياط) المطرب الوسيم الذي ترك الساحة الغنائية مبكراً فقد غنى (منيتي بنت الحمولة)، والفنان (فاروق هلال) الذي كان لأغانيه السحر الساحر واشتهر بأغنية (ردت أنساك) ثم اشتهرت المطربة العراقية (مائدة نزهت) بأغانيها التي عبرت حدود العراق ورددها الجمهور العربي كأغنية (اسألوه لا تسألوني)، وتلك قائمةٌ لا تنتهي من رواد الغناء العراقي الذين نشروا الأغنية العراقية إلى أنحاء العالم ولا يسع هذه القائمة مقال، ونذكر منهم الفنانين: فؤاد سالم، وحسين السعدي، ومحمد عبد المحسن، ويحيى حمي، وطالب القرغلي، وآخرين.
ولا بد لنا أن نذكر أن السبب الرئيسي في انتشار الأغنية العراقية وبقاء القديم منها إلى يومنا هذا حاضراً في ذاكرة الأجيال العربية، أن مفردات الأغنية العراقية نابعة من وجدان وأحاسيس وعواطف المجتمع العربي وآلامه التي يعيشها في هذا الزمن العربي الرديء، والأهم من هذا أن كتّاب الأغنية العراقية عندما يكتبونها فإنهم يمزجون الحزن بالفرح، ولا يفوتهم من أمر حياتهم شيء، لذا فإن الجمهور العربي رغب وبشدة في الأغنية العراقية لتكون بلسم آلامه في حياته.
من هنا يمكن أن نقرأ لوحةً سومريةً وُجِدت في “زقورة أور” في أهوار ذي قار في العراق تقول: (في سومر يغني الشعب للحياة، وتنطلق مواكب العظماء والشعراء، وتهدر أصوات الفرح والمرح، سومر شعبٌ يعيش الحياة).

د. رحيم هادي الشمخي