ثقافة

الأمسيات الأدبية إلقاء لضوء على النخبة المنفية

كثيرة هي الأمسيات الأدبية التي تقام في مراكزنا الثقافية وبعض التجمعات الأدبية، وكثيرة هي الأسئلة التي يمكن طرحها حول أهميتها وفاعليتها والهدف منها بالنسبة للمشاركين فيها وللجمهور الذي يتابعها.. من هنا وعلى هامش إحدى هذه الأمسيات التي أقيمت مؤخراً في مركز ثقافي العدوي، والتي شارك فيها الشاعران أوس أسعد وطلال سليم والروائي علي محمود، سألْنا المشاركين عن أهمية هذه الأمسيات والجدوى منها والفائدة التي قد يجنيها المشارك والجمهور على المدى القريب والبعيد.

ازدهار الطحالب

يرى أوس أسعد أنه ورغم قسوة الظروف التي نعيشها جميعاً إذا لم نستطع وقف انجراف التربة وانهيارها الحاصل، فإننا نستطيع زرع وردة في أصيص أو شجرة في غابة محروقة، وبالتالي فإن الأمسيات الأدبية هي بمثابة وردة أو شجرة أو رشة عطر، وكذلك الكتابة الساعية إلى اختلافها حيث هي محاولة لرمي حصاة في مجرى التفكير السائد أو خدش زجاج الذائقة النمطية المعلّبة.. وأهمية هذه النشاطات -على قلّتها- تنبع برأي أسعد من كونها تلقي الضوء على النخبة المنفيّة في عزلتها طوعاً أو كرهاً، حيث كل المجتمعات تفخر بثقافتها وأدبائها ومفكريها وتحاول أن تكسر الجدران بين المتلقي والقارئ أو الكاتب أو الشاعر، وما يرجوه أن نحاول تقليد هذه المجتمعات على الأقل، معتقداً أن خللاً كبيراً يكمن في طرفي المعادلة هذه، حيث تزدهر بشكل ما في مرحلة ما وتنوس في الأخرى، نظراً لظروف المجتمعات وانعطافاتها التاريخية الحادّة، وبيّن أنه حين تنهار منظوماتها القيميّة والعقائدية فإنها تبدو بلا هوية واضحة ومعلّقة في الفراغ وتميل بسهولة وانجراف نحو الهامشية والاستهلاك والقشور، وهذا بدوره لا يترك للإنسان الباحث عن الجمال المختلف فرصة لالتقاط أنفاسه، ومحاولة البحث عمّا يُشبع روحه التواقة لخلق الجمال فنراه لاهثاً للبحث عن لقمة العيش، وحيث النخبة بدورها مصابة بأمراض كثيرة، أولها الأنانية والشّللية والإلغائية كطبيعة مجتمعاتنا، لذلك نراها تنكفئ ضمن مواقعها لتحافظ على كينونتها المنهارة أيضاً، وفي ظل ذلك يبقى الجمهور برأي أسعد مسألة مشكوكاً فيها إلا ما ندر حيث يكون الجمهور –غالباً- من أصدقاء صاحب الدعوة لأن مؤسساتنا كما يشير استقالت من دورها ونجحت بكفاءة في تفريغ الثقافة من مضمونها، وبقيت هياكل تنفث فراغها مما ساهم في ازدهار الطحالب وترك الفراغ للفكر الأصولي الظلامي ليعشش كالعنكبوت في خلايا المجتمع.

الجمهور عاوز كده

وبرفض أسعد عبارة “الجمهور عاوز كده” الاستهلاكية المدغدغة لمشاعر العامّة جملة وتفصيلاً، لأن الثقافة عموماً هدفها الارتقاء بمعارف الكائن وتطويرها، وكذلك الفن حيث له الدور الأكبر في الارتقاء بذائقة الإنسان وتحفيزها على تلقي الجمال الأعلى، لذلك ومن خلال هذه الأمسيات إذا نجحنا في خدش هذه الذائقة المسطحة النمطيّة الغارقة في التقليد والثبات هذا شيء جميل، وإذا لم ننجح فيكفي شرف المحاولة، مع معرفته الأكيدة بأن المسألة أعمق من ذلك وبحاجة لفعل تراكمي حقيقي ولظرف موضوعي وذاتي أنضج بكثير مما نعيشه الآن، مع تأكيده على أن هاجسه الدائم يتجلّى في محاولة البحث عن المختلف والكيفية الأفضل لتقديمه شكلاً ومضموناً، حيث تكفيه إثارة السؤال لدى الجمهور وإحداث فعل المفارقة بين ما لديه وما يتلقاه ويسمعه، ونوه إلى أن الإنصات المثمر عنوان تفاعل ضمني مع ما يلقى على الجمهور، وهذه الآلية -فعل الإنصات إلى الآخر- تعكس موهبة بحدّ ذاتها لأننا تاريخياً لا نسمع سوى صراخنا، وحتى صوتنا الداخلي العقلاني إلى حدّ ما لا نسمعه، والشعر حالياً غدا برأي أسعد مهموساً أكثر ممّا هو إيقاعيّ منبريّ، لذلك يتطلب مثل هذا الأمر، فهو سيعبر الأذن إلى القلب والمخيّلة حيث تزدهر كيمياء الصورة الشعرية ويحدث التفاعل المزهر، ولكن حين يثمر الأمر أكثر من ذلك ويغدو حواراً بين الجمهور والأديب، فثمّة تطوّر أرقى سيصيب طرفي المعادلة بالضرورة، حيث لا يكتمل حضور الأديب الشاعر إلاّ أخيراً، والعكس صحيح.

سطوة الأنا

ولأنّنا لسنا كائنات مريخيّة قادمة من الفضاء الخارجي، بل نحن أبناء هذا المجتمع بكامل تناقضاته وأمراضه يبين أسعد أننا إذا ناقشنا ظروفنا الحالية -وهذا ما يجب أن يكون- فالمطّبات برأيه كثيرة، تتعلّق أوّلاً بفضاءات مراكزنا الثقافية بوجود مشكلة الجمهور الذي تفتقده هذه المراكز، بحيث يغدو الجمهور هو فقط المدعو من قبل صاحب الأمسية وحسب، والأدهى من ذلك كما يرى وجود ذهنية الرقيب المتطوّع ضمن هيكلها الوظيفي الذي يضع خطوطه الحمر المتناسبة مع أوهامه وقلقه على السلِّم الوظيفي، وهذا الرقيب يبدو قلقاً أكثر من الرقيب الرسمي، وأكد أنه آن الأوان للتخلص من الرقيب المتطوع أو تهذيبه وتهذيب قلقه وتوسيع مداركه على الأقل، ويشير أسعد إلى مجتمعاتنا التي تمتاز بعلوّ نبرة الأنا لديها وهي صفات المجتمعات المنغلقة التي لا تستطيع مواكبة التطور والجديد فتنغلق على تزمّتها وتشدُّدها ويعلو صراخها الداخلي الذي يتحوّل غالباً إلى مونولوج، وفي أفضل الحالات إلى عنف تجاه الذات والآخر فيكثر الافتخار بالأنا كحالة ماضويّة لإثبات الوجود، والشعراء بالتحديد هم أبناء هذا المكان المريض بمرض الأنا، لذلك تأتي التشاركيّة  في هذه الأمسيات كحالة جيدة قد تساهم في كسر مثل هذا الأمر أو خدشه على الأقل مخفّفة من سطوة الأنا الأحادية، ولكن أحياناً إذا كان المحتفى به صاحب باع طويل في مجاله فإنه من الجميل أن يكافأ، وخصوصاً قبل موته بأمسيات ونشاطات تضيء على مجمل ما قدّمه للمشهد الثقافي عموماً وتحفيز الحوارات والنقاشات حول تجربته بغية إضاءتها بالقدر الممكن الذي يحترم المثقف ودوره الاجتماعي لا بهدف إبرازه كذات متضخّمة نمت في الفراغ وتعملقت بلا تربة.

منتَج جمالي

ويبين أسعد أن الأمسية الأخيرة التي شارك فيها في مركز ثقافي العدوي مع الشاعر طلال سليم والروائي علي محمود قد تم التشاور بشأنها مع الأصدقاء والاتفاق على إحيائها رغم القلق الذي كان ينتابهم من الإشكاليات التي سبق وتحدث عنها، وأوضح أن الشكل الأجدى في المحصلة لتقديم هذه الأمسيات بالشكل اللائق يتطلب الإعلان عنها عبر الصحف ووسائل التواصل المعروفة ليصار إلى تشكيل رأي ثقافي تفاعلي تشاركي لتحفيز الآخر على الحضور، فالنشاط الثقافي والأدبي –برأيه- هو منتَج جمالي يجب أن يُحترم من قبل القيّمين عليه، وهذا بدوره سيحفز المتورطين في هذه النشاطات ليقدّموا أفضل ما لديهم أيضاً، والجمهور –باعتقاده- ليس مكوناً فضائّياً، بل هو حالة حضور تُخلَق خلقاً من خلال الاعتناء بجودة الوجبة الثقافية والأدبية التي ستقدَّم له، حيث يجب احترام الذائقة والقلب والأذن والروح، لأن الكائن بطبيعته يعشق الجمال ويرفض –بفطرته- الرديء والمستهلَك والمبتذل، وتلك مسؤولية المؤسسات الثقافية والمثقفين الأسوياء بأن لا يدغدغوا ذائقة المتلقي السلبيّة التي تميل إلى الاستعراض والاستهلاك في ظروفنا الحالية.

عماد الكون

في حين يبين الروائي علي محمود أن الأمسيات الأدبية تحقق تواصلاً مع الأصدقاء مبدئياً والناس على وجه العموم, كما قد تعطي المشارك فيها ثقة بالنفس ومواجهة الجموع وتحسين خطابته التي يحتاجها كل شاعر أو أديب، فيشارك فيها ويقدم ما يحبّ أن يصل إلى الناس وما قد يرغبون بسماعه بحسب الذائقة العامة، مع مراعاة حدث معين أو ظرف تاريخي مؤاتٍ، مفضلاً أن تكون على شكل حوار إذا كانت شروط اللقاء مناسبة، وأشار محمود إلى أهمية التشاركية فيها، وخاصـّة إذا كانت من صنوف أدبيـّة مختلفة (شاعر مع عوّاد) أو (قاص مع زجـّال) وفي هذا ما يغني الأمسية بتفاعلات مختلفة ويرفع من مستوى الرغبة في التألق أكثر لدى المشارك لزيادة إبداعه حيث التنافسية تخدم الارتقاء على جميع الأصعدة، وأكد على أهمية  التشاور قبل الأمسية لمعرفة الحالة العامة التي سيعيشها المشارك، وليعرف شركائه بالحد الأدنى، وبيّن أن المبدع لا يحتاج إلا إلى منبر حر، وما عداه لا أهميـّة قصوى له من تقنيـّات وفنيـّات، فالشاعر يقرأ خلجاته في حقل من الحنطة بكل سحر وشغف، ونوه إلى ما نمر به من تشوه بليغ في الذائقة حيث ثقافة الاستهلاك باتت طاغية على كل شيء، والهمّ المعيشي يأكل الألباب والأفئدة، مع إشارته إلى أن الأدب يبقى عماد الكون وله أهله المخلصون الذين يعرفون حاجتنا للوقوف في وجه المدّ الأمي الذي يجتاحنا في كل تفصيل يومي مهما صغر.

أمينة عباس