ثقافة

” إكليل لأدومو” وسؤال أين يقف المناضل: ما بين المُثُل وأفكار الأَسْلاف؟

أعاد بول مابي سماعة الهاتف إلى مكانها؛ وذهب إلى السرير الصغير؛ في ركن مرسمه، تمدد على الفراش وحدق إلى السقف “إذن قد مات؛ من الصعب تصديق ذلك بشكل من الأشكال، فقد كان دائماً نشيطاً ملؤه الحياة، من الصعب أن تفكر أنه كان غالباً ما كان يأتي إلى هذا المرسم هو ولويس… لويس” نهض، أخذ قلمه ودفتره ثم أسند هذا على ركبتيه وبدأ يكتب، كتب إلى لويس يخبرها بما آلت إليه الأمور مع أدومو الذي رحل عنها إلى أفريقيا ص481. وأدومو هو بطل رواية بيتر ابراهامز الأكثر شهرة ونضجاً برؤية نقاد الرواية الإفريقية “إكليل لأدومو” التي تدور أحداثها في مكان متخيل في أفريقيا.

الولاء قبل السيطرة
كان النضال حينها يمر بمرحلة كان المستعمر يدرك خلالها أن السيطرة لا تتم فقط عبر السلاح، وهو الأمر الذي يمكن له أن يكون آنياً، إذ لا بد أن يكون للتراث والحس الفطري بحقوقهم أن يدفعهم ولو بعد حين لإدراك أنه لا بد من الانقلاب على الظلم. لذلك كان لا بد للمستعمر من أن يضمن الولاء قبل السيطرة على الأرض، حينها درج اعتماد التبشيريين لهداية الناس وخاصة في أفريقيا، حاملاً أعباء هداية الناس وترقيتها “حجة للسيطرة” الأمر الذي تناوله يوماً صاحب الرواية بالقول “كان الدين مطية  للمستعمر”.
لكن الوقت لا بد أن يحين كي تعي الشعوب حقيقتها وحقيقة وجودها، والأهم حقيقة المستعمر فيهب ويعلن صرخته، التي شاركه إياها الأدب، فكان أدباً مقاوماً، حاكى نظراءه في كل بقاع الأرض، ليكون بيتر ابراهامز واحداً من أهم الروائيين الأفارقة الذين أطلقوا أقلامهم لتحكي قصة النضال الأفريقي.
ابراهامز الذي ولد عام 1919 في قرية صغيرة تدعى “فريد دورب” قريبة من جوهانسبرغ العاصمة الجنوب أفريقية، غادر بلده في العام 1939 إلى إنكلترا ليعمل في الصحافة، ثم يغادرها إلى جامايكا في العام 1950، ليصبح واحداً من أهم أعمدة الأدب الأفريقي، متناولاً الشؤون السياسية والاجتماعية في رواياته التي بدأها برواية أنشودة المدينة، تلاها في العام 1946 “صبي المنجم” التي يعتبرها النقاد من أوائل الروايات التي سلطت الضوء على النظام العنصري القائم في جنوب أفريقيا، ولفتت إليه الأنظار. تلاها “درب الرعد” و”الفتح الوحشي- العودة إلى جولي- إكليل أدومو- ليلة لهم والجزيرة الآن” لتكون “إكليل لادومو” الأنضج والأهم والتي قسمها إلى جزأين، الأول “الحلم” يتحدث عن حركة النضال في الخارج، والصراعات التي تدور بين مناضلين حقيقيين وزعماء يتنعمون في العيش على حساب الآخرين، والثاني يصور الواقع المناقض للحلم، وتدور أحداثها في مكان متخيل من أفريقيا، حيث ميشيل أدومو بطلها الشعبي الذي اختار أن ينعتق من سيطرة المستعمر على بلاده وحيث يضيق الخناق عليه فلا يستطيع التحرك كما يليق بمناضل، لتكون إنكلترا ساحة نشاطاته، حيث يلتقي بناشطين وطنيين آخرين اختارهم المنفى.

حبيبتان تتنافسان
حدثني عن نفسك، يقول “لانوود” لأدومو الذي سعى للقائه كزعيم وقدوة نضالية في الخارج: “إنها قصة كل طالب تقريباً من طلاب المستعمرات، فالمبشرون يلتقطون الولد اللامع في القرية الصغيرة، ويشرعون في تعليمه، والتعليم يأتي بالوعي، بعدئذ يتفحص الصبي العالم من حوله؛ فيجده ناقصاً حسب المعايير التي قدمها له المبشرون، حينذاك؛ ينقلب عليهم؛ ثم يبدأ بشق طريقه بمفرده”.
كان ذلك عبر “لويس” البريطانية التي سرعان ما وقعت في حبه، فباتت تشاركه ذات الحماس لخلاص بلاده من سيطرة بلادها، هناك ينشغل أدومو بالكتابة والخطابة للدفاع عن قضيته وحبيبته الأولى التي تنافس لويس على قلبه: “أفريقيا.. إنها أشبه قليلاً بالقلب؛ أنت تريدين شكلها؛ إنه كالقلب وأفريقيا هي قلبي، قلب كل منا، نحن السود، بدونها نحن لا شيء؛ وطالما هي ليست حرة، نحن لسنا رجالاً، ذلك يفسر لماذا علينا أن نحررها أو نموت، تلك هي المسألة”، ويكمل وقد رأى أثر كلماته على وجهها “ذلك أمر لا يفهمه شخص أبيض”ص 80، تستمر في حبه ويستمر هو في حبها، إلى أن تأتي لحظة يتحول فيها الأمر إلى كابوس، حين ينجرف خلف غرائزه، ويخونها مع صديقتها “جو فيرس”، ستغضب لويس، تطرده من حياتها وتبدأ الضغوطات تتزايد بعد أن ينجرف في الصراعات الجانبية مع الآخرين من المناضلين، يتعرض للاعتقال، تعلن حالة الطوارئ في البلاد، فنجده في لحظات مظلمة؛ على ظهر باخرة تتجه إلى وطنه المتخيل: “أيتها الأم أفريقيا، اجعليني قوياً من أجل العمل الذي ينبغي أن أقوم به، لا تنسيني بين الكثيرين الذين ترعين، ولسوف أجعلك عظيمة، سأجعل شمس الحرية تشرق عليك من جديد”.

في الوطن
يلتقي سيلينا وسرعان ما ينسى لويس التي وقفت إلى جانبه، سيصل إلى البلاد التي تنتظره بطلاً كي يحررها، سوف تساعده “سيلينا” وصديقه الطبيب “أدبهوي”، سيصبح رئيساً للوزراء، المسؤولية التي ستبعده عن الآخرين، وتعزله عنهم ثلة من أصحاب المصالح والخونة من داخل حزبه الذي ناضل باسمه، والفريق الذي اختاره شريكاً له في إدارة البلاد، وقد اكتشف أن ليس الأبيض عدوه الوحيد بل هناك الجهل والفقر والأفكار القديمة التي تمكنت من أبناء وطنه، لا يجد لنفسه مخرجاً كي يرضي غروره وآماله، ولا يبقي على ما يعتبره منجزاته، سوى التصالح مع كل شيء، مع كل أعدائه، يبيع أصدقاءه، يخون ويتخلى عن المثالية والمبادئ التي طالما تغنى بها، سيقول لصديقه في ساعة مكاشفة بين الثلاثة أدومو؛ سيلينا الغاضبة وأدبهوي الذي يقول وقد بات يشك في أنهم يحكمون بلادهم بأيديهم حقيقة: “ستخسر إذا دخلت المعركة ضدي، كما تعلم، فأنت تمت للغد يا رجل، وليس للأمس”. لكنه كان يعلم أنه على خطأ، فأدبهوي كان قد رجع إلى ماضي الطقوس الدموية وعبادة الأسلاف. ص474
سترتد عليه الأمور، سيتذكر أدومو بعد رحيلهما؛ مندي الذي وشى به ويستعيد وجه لويس التي أحبته، وفجأة سيعود وعيه وقد باتت نغمات ما واضحة ثابتة في الليل الساكن؛ وصراخ يتعالى:
أدومو خائن أدومو خائن، ثم يفاجأ بحراسه:
“بما يشبه الجنون أصيب الرجلان، وهما يلفان حول أدومو يقفزان فوقه، لاعبين رقصة طقس الموت؛ والطبول تحثهما؛ اقتل اقتل اقتل”.
“في السكون جاء آخرون بصمت ثم أخذوا الرجلين بعيداً، تاركين الجسد المقطع إرباً إرباً من لحم وعظم، والذي كان ذات يوم مسكناً لحياة ميشيل ادومو”ص 480.
رواية قد لا تكون قراءتها من السهولة بمكان، وهي مشكلة الروايات المترجمة غالباً، لكن لعلها في النهاية رواية لطرح الأسئلة دون الأجوبة، لعل أهمها: “كيف للمناضل أن يجد طريقه للمقاربة مابين المثل والمبادئ، وما بين الأفكار الكارثية التي عششت في العقول؟!”..
الرواية صادرة عن وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب- ضمن سلسلة إبداعات إفريقية، بترجمة للكاتب عبد الكريم ناصيف.
بشرى الحكيم