ثقافة

“اختطاف” ألف ليلة وليلة مسرحية بتوقيع أيمن زيدان

ليس من قبيل المصادفة أو العبث أن يجيء خيار الفنان المسرحي المخضرم “أيمن زيدان” -1956- للمسرحيّ الإيطالي الأشهر والأكثر إثارة للجدل “داريو فو” -1926-2016- المعروف بمناكفته شديدة اللهجة، لكل من المؤسستين الدينية – الفاتيكان- والسياسية، ليكون نص العرض المسرحي “اختطاف” بنسخته المحلية المأخوذة عن مسرحية “الأبواق والتوت البري” هو من انتقاه “زيدان” من بين الكثير من النصوص المحلية والعالمية، واشتغل عليه بالإعداد الذكي مع “محمود الجعفوري” ليصبح عراب عودته المدوية إلى خشبة المسرح السورية،والتي كان قد ابتعد عنها لفترة زمنية لا بأس بها، خصوصا بعد الحديث عن جهد بذله وزير الثقافة الأستاذ “محمد الأحمد” لإعادة الألق لخشبات المسارح السورية،- التي كانت في الأمس وكأنها تحيا كرنفالا مسرحيا لا عرضا مسرحيا- وذلك من خلال العمل مع الفنانين المسرحيين المخضرمين، الذين قدروا في اشتغالاتهم المسرحية، وخلال مسيرتهم الفنية الطويلة، كالأستاذ أيمن زيدان وغسان مسعود -الذي حكي أيضا عن محاولة جرت معه بذات الشأن-، أن يتركوا أثرا طيبا في ذاكرة الجمهور المسرحي المحلي، هذا الجمهور الوفي والصادق لفن المسرح النبيل رغم كل ما يقال عن قطيعة جرت بينه وبين فنه الأمثل “المسرح”، قدم له “زيدان” ومن رافقه من الفنانين والفنين والإداريين، فرجة مسرحية كاملة الأوصاف كما يقال، جاءت في احتفالية اليوم العالمي للمسرح، الذي رعته وزارة الثقافة- المديرية العامة للمسارح والموسيقى، وفي الحقيقة الجهد التنظيمي المبذول أيضا لا بد كان له طيب الأثر في خلق حالة جميلة من التفاعل بين الجمهور وما يجري من أحداث على الخشبة، التي نبضت بالحياة وكأنها نافورة ألوان مشرقة، صدح منها عرض مسرحي أخاذ، جعل المتفرجين متسمرين إلى كراسيهم، متناغمين مع الأداء السلس الذي قدمه الممثلون بتقنية عالية لا سيما الفنان “لجين إسماعيل” الذي قدم “شغلا” مسرحيا رفيعا، جمع بين مختلف صنوف الحالات النفسية والحركية وردود أفعالها، والتي نجح بإيصالها ببراعة من خلال تأديته للشخصيتين الرئيسيتين في العرض الرفيق “أنطونيو” والتاجر والاقتصادي “أجنيللي”، أيضا الأداء المنضبط للممثلين بتعليمات تبدو وكأنها حاسمة من المخرج، “لا شغل لنا بما لا يلزم” جاء أداء حِرفياً وسلسا، قدمه ببراعة كل من “لوريس قزق – توليب حموده -نجاح مختار -أنطوان شهيد – خوشناف ظاظا”، إن كان في الحركة الرشيقة للممثلين وما يتناسب منها مع الأداء والحالة الانفعالية المسرحية دون زيادة ارتجالية بلا طائل، وأيضا في الأداء الصوتي المتنوع واللعب الحر على الألفاظ حسب ديناميكية الحالة الحوارية، التي جاءت رشيقة هنا وكأنها مجموعة ألاعيب لغوية،تناقلها الممثلون بأصواتهم وأفعالهم، فتفاعل الجمهور معها بمزيد من الضحك والتصفيق العفوي، وذلك حسب مقاربتها لجوانيات الناس، في استخدامهم  لمفردات “عامية” ذكية ولماحة، تم استحضارها لفظيا هاهنا بتكثيف رمزي يعرفه المتفرج السوري جيدا وجدا، وهو يضحك عليه وعلى دلالته هنا في العرض -الذي جاء ليحكي وباختصار شديد قصة السلطة ومصالحها التجارية الأكثر أهمية لها من أي قيمة أخرى -لأنه حقيقة يبكي منه في الحياة، وفي هذا نقد لاذع من “فو” للكلاسيكية السياسية التي سادت أوروبا عقب الهيمنة الأمريكية الفعلية على الحياة السياسية في أوروبا، نقد لاذع سيوظفه المخرج ليكون لصالح محلية عرضه، الذي يدرك نجم حقيقي لا “فيسبوكي” مثل “أيمن زيدان” أنه سيقدمه لجمهور هو أولا وقبل كل شيء، أي هذا الجمهور كائن تاريخي وجغرافي، وما يُقدم له من عروض مسرحية خارج هذه المعادلة وبالمباشرة والسطحية التي اتسمت بها العديد من العروض المسرحية السابقة، هو لا يعنيه ولم يعنيه ماضيا ولن يعنيه مستقبلا، ولهذا فإن فن المسرح هو فن نبيل، لأنه تفاعلي، تشاركي، فيه إحساس عال بـ “الأنا” وبالجماعة وهذا ما حرص “اختطاف” على تقديمه، وذلك باشتغالات مسرحية صرفة، نقية، مدروسة، تمازجت ببراعة مع الإضاءة الرشيقة والوظيفية، ومع موسيقا “سمير كويفاتي” التي جاءت وكأنها تمهيد سمعي متقن، للمشاهد التي حكت الحكاية بسلاسة وحرفية، بعد أن اختار المخرج الميال “للبريخيتة” المسرحية، أن يذكر جمهوره في العديد من الفواصل التي افتعلها، أنه في المسرح لا في الحياة، وهو هنا ليشاهد، ليستمتع أولا، فهذا هدف المسرح الأهم برأيي، تقديم المتعة بغض النظر عن نوع العرض، وهذه المتعة التي تم الاشتغال عليها في مختلف عناصر العرض المسرحي “اختطاف” قدرت أن تلج إلى دواخل كل متفرج سمحت له الظروف أن يشاهد العرض، ولا ريب تركت أثرها الكبير فيه.
كان لافتا هذه المرة عند “زيدان” التركيز على هذا الكم الكبير من العبارات ذات الإيحاءات الجنسية الواضحة الدلالة، والتي ربما تقصد المخرج وجودها بهذه الوفرة، للدلالة على المستوى الذي انحدر إليه الحوار بل وحتى العلاقات اليومية بين الناس في ظل الملهاة التراجيدية التي اسمها “الحرب”، أيضا تضمين العرض العديد من الانتقادات المناسبة للعلاقة السائدة بين الناس والأجهزة الرسمية، التحدي الكبير الذي رفع فيه “زيدان” السقف الرقابي، خصوصا في انتقاد “اختطاف” الرمزي جدا وغير المباشر، للمؤسسة الدينية والسياسية، التي يجد أنهما في نص “فو” تصبان جهدهما في خدمة المصلحة الاقتصادية، بغض النظر عن أخلاقيات كل من هذه وتلك، وفي هذا الكثير من الجرأة والموضوعية، التي يحق لفنان وطني ثقيل من عيار “زيدان” أن يقولها ويقدمها في وطنه، وعلى خشبة مسرحه المحلي وبوجود السلطة متمثلة بوزير الثقافة الذي صفق أيضا وطويلا لهذا العرض المسرحي القيم، الذي لا تستطيع إلا الوقوف والتصفيق له أيضا بأكف القلب.
تمّام علي بركات