ثقافة

لأنك هنا ينضج الفرح والقمح والزيتون

كلما اكتمل قمر العشرة أيام خاصتنا، نلتقي.. هو موعد ثابت بفعل ضغط الوقت لا ينقص ولا يزيد.. كما العادة رتبنا الهدوء لجلستنا وكل ما يلزم لفتح باب الحديث.. وبكل جلسة كنت أخبىء لحديثه “كومة” من السمع، حديثه الذي لم ولن أمّل منه يوماً من الأيام. كيف لا وكلماته معجونة بعطر التراب وندى الصباح وأمل الشباب رغم غدر الزمن، وقلة الأيام المتبقية لمزيد من المغامرات.

كان حديثه في آخر لقاء عن ذاك الزمن الجميل.. ذاك الزمن الذي روى لي عنه الكثير من الحكايات، وقد يروي على مسمعي ذات الحكاية مئات المرات، طبعاً مع بعض الإضافات التي يسعفه بها الاستيقاظ المفاجئ للذاكرة.. وتتوالى الأحداث وتتغير الأزمان ونحن مسمرون بلا حراك، ليس من شيء حي سوى تنهيداته وحرقة قلبه وغصاته الباقية ما بقيت تلك الذكريات.. يقول لي: للذكريات والحنين رائحة احتراق مصدرها القلب يا غاليتي.

حدثني كثيراً عن خيانة وجمال الحياة بذات الوقت.. وعن تضحياته ورفاقه في ساحات القتال.. حدثني عن سورية الخير.. سورية الأم التي تلم.. عن المحبة والتعايش الذي كان القاسم المشترك بين جميع الناس آنذاك..

حدثني طويلاً عن صديقه وحبيب قلبه ورفيق خدمته في الجيش العربي السوري، واخبرني كيف تقاسما معاً الحب والفرح والبكاء، والفقر والقهر والانتصارات والهزائم، وكل التفاصيل على جبهات الأيام.

أقسم لي بأنه لم يعلم ما هو دينه إلا بعد استشهاده في حرب لبنان، تلك الحرب اللعينة التي التهمت خيرة شبابنا.. لقد دافعنا ببسالة عن بلد كنا نعتقد أننا حقا “ربينا سوا” نحن وأولاده، لكن للأسف خدعنا من أقرب الناس نحن كسوريين.. هكذا قال.

تكلم كثيراً وشرح لي كمن يرمي هماً أثقل كاهله.. تابع حديثه وقد بان التعب عليه من خلال انخفاض طبقة صوته.. كان يتكلم بصوت مرتفع في بداية الجلسة، وكأنه يودع صوته إلى غير رجعة، وهو يعلم أنه حتى أعضاء الجسد ليس عليها أمان..!

قال لي: كانت الأيام قبل الآن جميلة عذبة حقيقية صادقة رغم القلة بكل شيء.. سنوات الحرب السبع طحنتنا طحناً.. حرقت قلوب الأمهات، حولتهن إلى قطع خشبية بلا روح، نحيا فقط لأننا من باب الصدفة لسنا أموات.. واااأسفاه لما وصلت إليه الحال..!.

كنت أسمع بكليتي، وكأن حديثه هذا لن يعاد مرة أخرى، وكانت عيناه كلما نظرت لهما أجدهما على حافة الدمع، ومع كل كلمة منه كان يرتفع عندي منسوب الاختناق، دمعي فقط هو ما بقي واضحاً من ملامح وجهي..!.

انتهت سهرتنا أنا ووالدي في الواحدة والنصف وبعض الوقت.. استقبلنا معا كما كل زيارة استيقاظ الصباح من نومه.. لم أشبع منه ومن حديثه، وهو كذلك الأمر، كان في نهاية كل سهرة من هذا العيار الثقيل على كلانا، يقول لي: (يلعن أبوك بكيتيني) وأنا والله لم أنطق بحرف واحد كل الوقت، فقط كنت أومئ له براسي ودمعي يغمر غرف قلبي.. شجرة الليمون البلدي الباقية بذاك الدار شاهدة على ما أقول..

من قلة النعم والحظ أن يحيا الإنسان بلا أب.!.

لينا أحمد نبيعة