ثقافة

“شجـرة لا تزهـر”

لم تكن تعرف كيف تقول لا، مسكونة بمقولة الفتاة العاقلة منذ خلقت إلى أن تزوجت، وأصبحت في بيت زوجها، كان كل شيء يسير بهدوء وتسلسل تعرفه من جداتها السابقات، تولد، تكبر قليلاً، تتزوج، تنجب أطفالاً، تزوجهم، فعجوز بجانب زوجها العجوز ثم الموت، حياة مريحة تسير كما النهر حتى باتت تسمع كلمات غريبة لأول مرة  في بيتها من أبنائها، حرب، سمعت الكلمة، ولكن لم تعيها تماماً حتى أصبحت من عاداتها اليومية تمارس سماع أخبارها تماماً، كما كانت تستمع لأخبار جارتها الثرثارة التي كانت كل يوم تأتي إليها لتعلمها بما يحدث في القرية، وتضيف إليها تحليلاتها وتخميناتها، إلّا أن الأخبار باتت تأتيها بلون الدم وبشاعة البارود والرصاص، كان زوجها العجوز ينغمس أكثر فأكثر في بستان الزيتون، مع كل يوم يمضي تكبر فيه الحرب أكثر بالزمن والمكان، يقضي فيه ساعات طويلة وكثيرة، يتفحص الشجرات، ويعد حتى عقد الأشجار وأغصانها، كلما ازداد قلقه ازدادت مجاورته لأشجار الزيتون العتيقة، تلك النظرة القلقة على الأشجار، رأتها مرة واحدة في عينيه عندما مرضت أمه مرض الموت، ولكنها هذه المرة أشد عمقاً حتى إنها حفرت الحزن عميقاً في قلبها، لكنها صمتت، فهي لم تتعود أن تسأل، أن تقترب أكثر من المسموح، حتى جاء ذلك اليوم عندما جلب الليل ذئابه، وهرّب هو أبناءه من القرية، وترك أشجار الزيتون وحيدة، أيامه اللاحقة كانت صامتة جداً، ثم تكلم للمرة الأولى بغضب عندما تلكأت هي في تلبية طلبه بجلب الطعام، انفجر بغضب من يحاول أن يثبت قوته وقدرته، وأنه ليس عاجزاً، هي كانت تصمت وتصمت، وهو يزداد صراخاً وغضباً، كل شيء حوله بات مصدراً للصراخ الدائم، حتى جلب له ولده ذات يوم نبتة زيتون صغيرة زرعها في حديقة المنزل الجديد الذي نزح إليه، حديقة صغيرة كئيبة مليئة بالأوساخ وسط بنايات اسمنتية رمادية شاحبة تخنق حتى الفجر عندما يبدأ، اعتنى بالشجرة، ونظف الحديقة، زرع فيها حشائش، لم يزرع أي وردة، وفي السنة الخامسة لإقامته عندما بدأت شجرة الزيتون بالإزهار لأول مرة، أغرقها بالماء وسقاها الكثير منه حتى سقط زهرها عن أمه، لم يسمح للزهر بأن يعقد ليصبح زيتوناً، والزهر الذي كان يعانده ويبقى صامداً كان ينزعه بيده، كانت هي تتأمل ما يفعله، وتبكي وعندما رآها تبكي صرخ في وجهها وأهانها، وفي السنة التالية عندما كرر “الفعلة” نفسها قالت له إن ما يقوم به حرام، وإن الشجرة ستتألم، نظر إليها بغضب ووحشية وأسكتها قائلاً: أنا لا أستحق ثمرها، لا أستطيع حمايتها، ثم تابع وهو يركز نظره عليها، إن كنت تريدين الرحيل ارحلي، لا شيء هنا لتبقي، كلماته فاجأتها، لم ترد عليه، بكت كثيراً، نزلت دموعها بغزارة مطر بخلت به السماء، وكل ما فعلته أنها لأول مرة في حياتها تقترب منه ويدها ترتجف وتمسح بيدها على وجهه، مسحت عينيه وخده، حتى نزلت دموعه لأول مرة منذ بدء الحرب، وقال بصوت متقطع: لابد أن أشجار الزيتون عطشى هناك، هل تعتقدين أن أحداً سقاها؟.
نسيبة مطلق