ثقافة

ما فائدة كتاب إذا لم يحملنا أبعد من جميع الكتب

السؤالُ الملحّ الآن: إلى أيّ حدّ ينجح العمل السّردي في أن يكون عملاً معرفيّاً مشبعاً بالطّروحات الفكريّة الكبرى،دون أن يخلّ بشروطه الفنّيّة، ولعبته الجمالية التي تكرّسه كجنسٍ أدبي، متماسك؟. شخصيّاً، لا أعتقد بوجود عملٍ فنّي أيّاً كانت هويّته،لا يحمل مقولةً فكريّة أو فلسفيّة أو أيديولوجيّة بطريقةٍ ما. تنثال عبر مساماته أو ترشحُ من فراغاته،وتتلطّى خلف سياقه.
ثمّة شخصيّتان محوريّتان،تاريخيّتان،مفعمتان بالدّيناميكيّة،في الرواية التي نتناولها “عندما بكى “نيتشه” للكاتب “إرفين .ديالوم/ منشورات الجمل/ الفيلسوف نيتشه،والطّبيب جوزيف بريوير/ حرّكتا مسار العمل ككل. بخطّين متوازيين ومتقاطعين أيضاً. وأخرى ثانوية،ولكنّها فاعلة كشخصيّة “لوسالومي” التي أعطت النّبض الأوّلي التّشويقي للسّرد.ليسري دافقاً في عروق النّصّ،حتّى النّهاية.بتحريضها،للأسئلة المقلقة داخل الدكتور “جوزيف بريوير/ وقدرتها على إثارة دهشته. برسالتها المتقشّفة ،الملغزة،التي تقول:/ يجب أن أراكَ لمناقشة مسألة بالغة الأهمّية وعاجلة. إنّ مستقبل الفلسفة الألمانية على المحكّ.أرجو أن ألتقي بكَ في الساعة التاسعة من صباح الغد،في مقهى “سورينتو” . ومريضته “بيرثا” والطّبيب المتدرّب “فرويد”. وهناك شخصيّات ثانوية،ذات حضور قليل تمّ توظيفه، ضمن الفضاء السّردي لإضاءة جانبٍ ما، ثمّ احتجبت. مثل “ماتيلد” زوجة الطّبيب المعالج، و”بول ري” صديق نيتشه،وصاحب الفندق، و”بيتر غاست” ناشر الكتب و”إليزابيث” أخت نيتشه.هذه هي الفرشة  التّاريخيّة للحدث الروائي، والبؤرة التي انطلقت منها خيوط العمل الفنّي. فـ “نيتشه” تعرّف على “لوسالومي” عن طريق صديقه “بول ري” 1882م  وحاول إقامة علاقة حب عفيفة معها،وقد أصبحت أديبة لامعة ومحلّلة نفسانيّة مميّزة وستعرف بصداقتها لـ “فرويد “ وعلاقتها الرومانسية بالشاعر الألماني “ريلكه”. ومعالجة “ جوزيف بريوير” لـ “بيرثا” المعروفة باسم “آنا” أيضاً صحيحة،وقد تناقش مع “فرويد” الشّاب المتدرّب، بحالتها كأوّل حالة موصوفة في كتابه “دراسات في الهستريا” بقلم “فرويد وبريوير” وقد شكّل الكتاب آنذاك ثورة في التّحليل النفسي .ولكي ينجح في علاج الفيلسوف المكابر، ادّعى الدكتور جوزيف بأنّه مصاب بحالة يأس واكتئاب شديد ولا يعرف معنى أو هدف لحياته وطلب منه أن يشفيه.  بينما غرضه الحقيقي هو أن يجعل “نيتشه” يتلمّس مرضه بنفسه.
يقول “نيتشه”: “أنا لا أكتب للفلاسفة الآخرين،أكتبُ للقلّة الذين يمثّلون المستقبل (…) سأظلّ وحيداً دائماً. إني أقبل هذا القدر”. فيتابع الدكتور “جوزيف” هجومه المدروس عليه، مذكّراً إيّاه  بالقصّة التي رواها له عن “هيغل” وهو على فراش الموت؟ عن الطالب الوحيد الذي كان يفهمه،وانتهى بالقول بأنّه لا يستطيع أن يجد تلميذاً واحداً.ثمّ يتابع استفزازه: “أذكر يا بروفيسور نيتشه،أنّك قلت بأنّ لاشيء يزعجك أكثر من أن تكون مديناً لشخص آخر دون أن تتمكّن من مكافأته بطريقةٍ موازية” فكان رد “نيتشه” سريعاً وحادّاً: “أتقصد أنّك تفعل ذلك من أجلي؟” فقال الدكتور “جوزيف” “هذه ليست نيّتي، إنّ دافعي أنانّيّ بحت،إنّي بحاجة إلى مساعدة ،هل لديك القوّة لمساعدتي؟” خطَا “نيتشه” نحو “الطبيب ومدّ يده وقال: أوافق على خطّتك/ وهكذا أُبرم الاتفاق بينهما على قاعدة متكافئة.
وهاهو يتابع تحليله لشخصيّة الدكتور “جوزيف” متقمّصاً دور المحلّل النفساني، الذي كان قد ألبسَهُ إيّاه الدكتور دون أن يعي ذلك قائلاً: “هنا تقول إنّك تعير اهتماماً كبيراً لآراء زملائك (…) لكن هذا ليس حلّاً صحيحاً.لأنّ ذلك يُعدُّ استسلاماً لسلطة الآخرين. إنّ واجبك أن تقبل نفسك، لا أن تبحث عن سبل لتكسب قبولي لكَ”.لاحظ الدكتور “جوزيف” حججه العقلانية وأيقن أنّه يملك فكراً ثاقباً وأنّه لن يهزمه لذلك حاول اتخاذ منهج لاعقلاني لعلّه يحرز نتيجة ما!.ويسترسل “نيتشه” بترتيب محاججاته مستشهداً بكتابه “العلم المرح” بأنّ العلاقات الجنسيّة لا تختلف عن العلاقات الأخرى في أنّها تنطوي هي أيضاً على صراع من أجل السلطة. وأنّه يكره الرجل الذي يستجدي الجنس فهو يتخلّى عن قوّته للمرأة الماكرة التي تحوّل ضعفه وقوّته لصالح قوّتها، ومسؤوليتنا هي أن نفكّر بإنشاء مخلوق أعلى، فروح الإنسان تكمن في اختياراته، وإذا قتلنا المقدّس، فعلينا مغادرة ملاذ المعبد. وهنا يفكّر الدكتور “جوزيف” بأنّ عليه لكي تأخذ الخطّة مجراها الصّحيح أن يحاول إنزال “نيتشه” من النجوم إلى أرض الواقع. فيتظاهر بالانزعاج من خطاب الفيلسوف المنطقي معترفاً بأنّ المسألة بالمستوى الفكري تبدو صحيحة ولكنّها بالمستوى العاطفي أعمق وأعقد.وأنّه، هنا تماماً تكمن مشكلة الفلسفة، وأحد عيوبها من حيث التّطبيق. فيؤكّد له “نيتشه” بأنّ عليه أن يعيش حياته بشكلٍ مختلف، ولن يخبره كيف. لأنّه يرغمه بذلك أن يحيا حياة قد صمّمها له شخصٌ آخر. لكنّه يستطيع أن يقدّم إليه زبدة أفكاره التي استفاض بها في كتابه “هو ذا الإنسان”.هنا يتدخّل الدكتور جوزيف، ليكمل ثغرات الحديث بالقول: لكنّك “ألمحتَ إلى ثلاث خيانات،ما هي؟”  فيردّ “نيتشه”:/ الأولى مع “فاغنر” وقد تلاشت تلك اللّدغة الآن والشّخصان الآخران هما “لوسالومي، وبول ري “. ولكن الدكتور “جوزيف” وقد ارتاح لمجمل اعترافات “نيتشه” لن يدع له مجالاً للتملّص والانفلات ثانية قبل أن ينطق بكلّ شيء. فرشّ المزيد من الحبوب ليلتقطها، عبر الإيحاء إليه بالتّشابه بينهما بخصوص علاقتهما العاطفية هو بـ “بيرثا” مريضته التي شعر بمشاعر خاصّة تجاهها وكان قد أدانه بذلك. و”نيتشه” بـ “لوسالومي” وهاهو يهتف به صارخاً: “إنّها بيرثاك” فيعترف الفيلسوف دفعة واحدة: “نعم إنّها بيرثاي”. ثمّ أضاف مستشهداً ومستجيراً بنظريّته الموسومة بـ “العود الأبديّ”: “على الرغم من شجاعتي بأنّني سأكون الفيلسوف المشهور بعد موتي،حتى بعد معرفتي بـ “العودة الأبديّة” تراودني فكرة أنّني سأموت وحيداً. لكنه ينهض فجأة ليقول: “لا يا صديقي،إنّه قدري هو أن أبحث في الجانب البعيد من الوحدة،إنّ ابني “زارادشت” سيكون ناضجاً بالحكمة،لكن رفيقه الوحيد سيكون نسراً،سيكون أكثر الرجال وحدةً في العالم، سأبقى وحيداً،لكن يا له من فرقٍ رائعٍ أن أختار ما أفعله: “اختر قدرَكَ، ثمّ حبّ قدرَكَ”.
حقيقةً، لقد نجح الكاتب في تذرير المقولات الفلسفيّة الجافّة عموماً، ضمن منمنمات السّرد، فحاك خيوطه الدّراميّة المتصاعدة الحدّة بما يتناسب وإيقاع الحوار بين الشخصيّتين الأساسيتين “الطّبيب والفيلسوف” دون أن تفقد الرواية بريقها الجمالي. كما نجح أيضاً في كسر تراتبيّة الزمن الكرونولوجيّة فاستقدم  الماضي من خلال الحاضر، مستشفّاً للمستقبل ومطعّماً زمنه الفيزيائي الذي ـ  دلّل عليه بتواريخ حقيقيّة مختلفة ـ بتوابل الزمن السيّكولوجي للشّخصيات ذاتها، وهي تبدع  عبر تداعياتها النفسيّة ومونولوجاتها، زمنها الخاص إلى جانب زمنها الروائي لحظة الكتابة. ولقد اندمج العنوان الأدبي مع المقولة الفلسفيّة وتشرّبها تماماً. لتهطلَ دموعُ “نيتشه” بغزارة من عيون القارئ كما الشخصيّة المتخيّلة. وليحظى الاثنان بالوصول إلى منزلة التّطهّر.
أوس أحمد أسعد