ثقافة

الشعر: انقسامات ومذاهب

إنه من الفنون الهشة، رغم ماضيه الحافل بالقوة، لكنه الآن يبدو أكثر هشاشة وعرضة للتلف، فالقصيدة التي لا تلقي في دواخل قارئها أو سامعها ثقلا وجدانيا عاليا، يطويها النسيان، خصوصا وأن المكتبة العربية والسورية بشكل خاص، تحفل بكل ما هو قيم وأصيل من الشعر العربي الذي لا يجارى، ورغم أن الحديث عن الشعر ليس بالحديث الجديد، لا في طروحاته ولا مواقفه ولا في صفاته الفنية واللغوية، إلا أننا أمام جيل كامل اليوم، يكتب القصيدة دون أن يعلم إن كانت نثرا أو شعرا حرا – كما يحلو للبعض التسمية- كما أننا أيضا في مواجهة جيل بل أجيال أيضا، تبدو عليهم إمارات الاستغراب والدهشة إذا ذُكر أمامه أن ثمة شعر آخر غير شعر نزار قباني ، مع شديد احترامنا لهذا الشاعر السوري الفذ. لذا لا بد من عودة للحديث كرمى جيل يجب أن يعلم من هو، وسط زحمة الأجهزة الذكية وبرامجها وصفحاتها الإلكترونية، عودة ولو بشكل عام على اعتبار أن الصحف الورقية، لا تحتمل كتابة “مقال” طويل هو أقرب إلى البحث في فكرته، بل إن هناك من قام بتأليف العديد من الكتب حول هذا، لكن لنقرب المثال وفق الاختصار.

عرّف “قدامة بن جعفر” الشعر بأنه: “كلام موزون مقفى”، وهو تعريف مختلف عليه كثيرا من قبل النقاد القدامى والمحدثين،الذين لم يوافقوا على أن يحدد الوزن والقافية كإطارين مميزين للشعر، فالشعرية حسب رأيهم لا تقف عند الشكل، إنما تتخطاه، بحيث يصبح المعنى شعريا أيضا، محمولا على مخمل الكلام، وهذا هو الناقد العظيم “عبد القاهر الجرجاني” يورد في كتابه دلائل الإعجاز” واقعة حوار حسان بن ثابت مع ابنه، حيث سأل حسان ولده: ما الذي يبكيك؟ فقال الابن: “لسعني طائر كأنه ملتف في بردى حبرة” فقال حسان: لقد قلت الشعر ورب الكعبة، ويورد “الجرجاني” أيضا واقعة الأعرابي الذي سئل: لمَ تحب حبيبتك؟ فأجاب: لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس. وكان أن خلص “الجرجاني” وفق ما نقله أن الشعر يمكن أن يوجد دون أوزان. أي أن الشعرية الحقة لا تتوقف عند الوزن، بل هي التخييل المعبر عن أحاسيس متقدة، ورؤيا نافذة، شديدة العمق، ويكون التعبير الجميل والرشيق الجزل هو الحامل لها، ولعل الكثيرين يعترضون على المسمى المطروح “قصيدة النثر”، ويرون أنه يحمل التناقض في بنيته، فكيف يكون قصيدة؟! وكيف يكون نثرا؟! وهذا مؤسس على قناعة أن القصيدة، وفقا للموروث الثقافي العربي والإنساني عموما، لابد أن تؤلف على أوزان وإيقاعات، وأن النثر يخلو من هذا الوزن.

السجال الذي لم يحسم منذ العصر العباسي مرورا بآراء المحدثين “طه حسين” و”مارون عبود” وآخرون والمنظرون الجدد للقصيدة المفتوحة، انتقل بعد أن ساد الشكل الكلاسيكي للقصيدة العمودية لقرون، بحيث صارت المنثورات العربية العديدة لا تذكر إلا لماما في الأدب العربي، انتقل بعد ازدهار حركة الترجمة مرة أخرى مطلع القرن العشرين، وذهاب العديد من الشعراء السوريين والعرب نحو التجريب في فضاءات أخرى للشعر، “نازك الملائكة- أورخان ميسر- خير الدين الأسدي وكتابه الشهير “أغاني القبة” متأثرين تارة بالسريالية وتارة بالعدمية وبغيرها من المذاهب الشعرية التي تبلورت مفاهيمها النقدية الحديثة نسبيا، بعد الحرب العالمية الأولى.

ولا ريب أن العديد من القراء الكرام، قرأ السجال الرائع الذي دار بين الناقد الكبير “مارون عبود” والشاعر الدمشقي “نزار قباني”– من لم يقرأه فاته الكثير- بعد أن هاجم “مارون” بقسوة ناعمة، القصيدة التي يكتبها نزار مثل “جانين” رافضا الاعتراف بها كقصيدة، وكان إن ردّ عليه صاحب “الرسم بالكلمات” بكل رقي بل وهيبة، يشرح له طبيعة موقفه، مؤكدا أنه كشاعر عربي أولا، هو مازال  يضع يديه في الطين ذاته، لكنه يسعى لابتكار أنماط جديدة من نفس روح الشعر العربي.

ومن المهم التأكيد على أن مصطلح “قصيدة النثر” يخالف بعض الشيء مسمى الشعر المنثور، فقصيدة النثر شكل أدبي اكتسب رسوخا وتنظيرا واضحا، استقرت معه الكثير من الأطر الجمالية. أما الشعر المنثور فيختلف عنه، فهو عبارة عن كتابة الشعر دون وزن، وهو الأساس لقصيدة النثر المعاصرة، ويكاد تعريفه يتوقف عند ملامح بعينها أبرزها: التخلي عن الوزن والقافية، والإبقاء على روح الشعر المتمثلة في الإحساس المتقد، والصورة الخلابة، واللفظ المنغّم. وهي محاولات تعود إلى أشكال مصاحبة للمدرسة الرومانسية للشعر، التي ظهرت في مطلع القرن العشرين، واستوت على يد جماعة أبوللو الشعرية.

ليأتي اليوم الذي سيجتمع به كل من “أدونيس – يوسف الخال- أنسي الحاج” وسيقوم أحدهم بترجمة كتاب “سارة برنار”قصيدة “النثر من شارل بودلير وحتى الآن” الكتاب الذي سيكون مصحف من سبق ذكرهم من شعراء ومصحف مريديهم من بعدهم، ولينضم إليهم فيما بعد الكثير من الشعراء الذين كتبوا القصيدة المنثورة، ومنهم كان الماغوط وعلي الجندي وسنية صالح، وصدرت حينها – ستينات القرن الماضي- مجلة “شعر” التي شارك هؤلاء الشعراء بإنهاضها، والترويج لقصيدتهم الرائدة فيها، حتى صار كل من لا يحب قصيدة النثر ويستمتع بصفاتها الجمالية، جاهلا، وهكذا صارت المجلة التي تابعها الكثيرون من رواد الحركة الثقافية والفكرية في المنطقة العربية، بلاد الشام خصوصا، هي المرجع الخصب لرواد “قصيدة النثر” الذين رأوا فيها من السهولة كونها تتخلى عن الوزن والإيقاع والموسيقى “من أهم عوامل القصيدة العمودية” ما يجعلهم يخوضون فيها، ولتصبح قصيدة النثر “تقليعة” في العالم العربي، وفي مطلع شمس كل نهار جديد يولد شعراء قصيدة نثر، تظهر قصائدهم وتختفي وسط هذا الزحام الشعري الذي لم يسبق له مثيل. ورغم النظريات الكثيرة التي روجت لكون الشعر العربي اليوم ليس من روح العصر، ولا يستطيع أن يحقق حضورا فاعلا في المشهد الثقافي العربي، أمام غزو تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث أصبح بإمكان أي كان أن يطلع على تجارب الشعراء الآخرين، ثم يصنع لنفسه تجربة، هي خليط من هذه التجربة الشعرية وتلك، إلا أن القصيدة الكلاسيكية حافظت على مكانتها التاريخية بين محبي الشعر، الذين يرون أن الحداثة لا تطال الشكل فقط، بل يجب أن تطال الموضوع، ومن النقاد من يجد أن “أبو النواس” مثلا أكثر حداثوية بمضامينه الشعرية من أهم شاعر قصيدة نثر معاصر.

لقد مضى أكثر من نصف قرن على منح شهادة الميلاد لقصيدة النثر في الأدب العربي الحديث. وكان من المفروض أن يستقيم هذا الجنس الأدبي وفق قوانين خطاب تمنحه الألق وتزيل مشاكل وعيوب الخطاب القديم، لكن هذا لم يحصل, لم يزدد مفهوم “قصيدة النثر” مع انصرام السنين إلا غموضا وضبابية. فمجمل الكتابات عن قصيدة النثر ليست فحسب عاجزة عن السير قدما حركة في هذا ولكنها عاجزة أيضا عن استيعاب تلك الجهود ومسايرتها, الشيء الذي نتج عنه نوع من الفوضى في الكتابات الشعرية التي انحازت إلى هذا النمط، خاصة لدى من يسمون الشعراء الشباب.

جدال قديم يستقيم له التجديد بين الحين والآخر، وخصوصا في زمن الحروب، التي برز ويبرز فيها الشعر بجماله، ليخفف من شدة هذه الوطأة الإنسانية الثقيلة، وهو اليوم من الوفرة لدينا بما لا سابق له، ونأمل أن نبني على هذه الوفرة، ما يقدم لقصيدة سورية تبهر الكون بأسره، فالألم خزان الإبداع كما يقال.

تمّام علي بركات