ثقافة

أعمال البيئة الشامية.. ترسيخ الانتماء الوطني والتمسك بالهوية

أعمال البيئة الشامية ليست مجرد حكايات افتراضية نسجها كتّاب السيناريو من وحي تخيلاتهم لسيرورة الحياة الاجتماعية والعلاقات السائدة في حارات الشام فقط، وإنما بُنيت على استحضار تاريخنا المعاصر، واستذكار بطولات الشعب السوري، ومقاومته الاحتلالين العثماني والفرنسي عبْر مساحة كبيرة لمحور المقاومة والتضحيات الكبيرة التي قدمها الشهداء كي ينعم وطننا بالاستقلال والكرامة سواء بالشهادة أثناء المواجهات أو باحتمالهم شتى أنواع التعذيب حتى الموت رافضين التخلي عن قضيتهم عن وطنهم، والدور الفعّال الذي قام به الثوار بالتعاون مع رجالات الحارة ونسائها اللواتي شاركن أيضاً بالمقاومة والوقوف إلى جانب الرجل بصور متعددة.

ولم يقتصر دور الأعمال الشامية على التوثيق والتوصيف المكاني، بل اتصفت بالدرجة الأولى باعتمادها على التورية والرسائل المبطنة بإسقاطات مباشرة على الواقع الراهن لتعزيز الانتماء الوطني والارتباط بالهوية، ويبدو ذلك واضحاً بحوارات الشخوص ومواقفهم والتعبير عنها بمشاهد هادفة تجمع بين القديم والحديث.

ففي موسم دراما الحالي حظي الجزء الثاني من مسلسل عطر الشام بمتابعة كبيرة، وقد مررت المشاهد رسائل واضحة تنم عن إسقاط مباشر حول اللحمة الوطنية والتوحد في مواجهة الغريب في الوقت الذي يحاول فيه الخائن إشعال الفتن بين الحارات، وبالتحديد بين حارة القصب وحارة (أبو صخر)، وداخل حارة القصب أيضاً ليتصدى النجم رشيد عساف(أبو عامر) إلى الخلافات ويردد” أنتوا ولاد حارة وحدة” لكن تصاعد الأحداث تأجج في حالة هجوم (أبو الرجا) رئيس القبيلة البدوية على حارة القصب وتعاونه مع الفرنسيين ضد أبناء بلده، وفي حوار الكومندان الفرنسي مع رشيد عساف أحد عضوات الحارة “كيف تقتلون أبناء وطنكم وترفعون السلاح في وجه بعضكم نحن في فرنسا لانفعل ذلك”، ليجيب عساف “نحن نقتل الخائن فقط”، حينما نبّه صخر حارة القصب من الهجوم رغم الخلاف بينهم موضحاً موقفه في مواجهته مع رشيد عساف” بلدنا واحد وأرضنا وحدة وعرضكم عرضنا”، وتقترب الصورة أكثر بالإسقاط على المصالحة الوطنية عبر محاولات المصالحة بين الحارتين.

وفي باب الحارة الجزء التاسع يرفض أبو عصام (عباس النوري) التعاون مع الفرنسيين وحينما يوضع على المحك ويعرض عليه المسؤول الفرنسي مسيو جان ورقة إنقاذ ابنه معتز من حبل المشنقة مقابل تعاونه معهم يرفض بشدة خيانة وطنه ووضع يده بيد الفرنسيين مردداً “أنا مع بلدي، حتى لو أعدم ابني وأنا أؤمن بقضاء الله”، وفي العمل ذاته يتحدث العقيد معتز-مصطفى سعد الدين-عن الشام التي تضم أم عصام وأم جوزيف وسارة كيف ما مندافع عنها” تجسيداً للتعايش الإنساني والديني الذي تعيشه سورية.

وفي الجزء الثاني من مسلسل خاتون يبدو الانتماء الوطني بفكرة حصار الفرنسيين حارة العمارة، وصمود سكانها والصبر على الجوع حتى كاد الطعام ينفد منها، و”ما بقي إلا ناكل وراق الشجر” ورغم ذلك لم يعترف الزعيم سلوم حداد بمكان الزيبق، إلى أن تمكنت خاتون ورجال الزيبق-معتصم النهار- من تنفيذ الخطة وإدخال الطعام إلى الحارة، كدلالة على الحصار الذي طال مناطق متعددة على مدى جغرافية سورية وصمد سكانها، وفي موضع آخر يختزل المشهد المؤثر لإعدام الشاب تحسين- أحد الثوار الذي رفض خيانة رفاقه والاعتراف بمكانهم-في حارة العمارة على مرأى من أمه وأهله وسكان حارته التضحيات الجسام التي قدمها شباب الوطن “لا تزعلوا عليي قولوا أنا بموت كرمال الشام، أنا عريس الشام”.

أما مسلسل الخان فيتناول الانتماء الوطني من وجهة أخرى إثر توجيه طعنة الخيانة من أقرب الأشخاص “الخيانة لما بتجي من القريب بتوجع”. لنخلص إلى المشهد الحزين الذي صوّره مصطفى الخاني – النمس- في باب الحارة بلحظة يأس بعد فقده كل الأشخاص الذين يحبهم” فرحة ما عاد في فرحة، وعيشة ماتت وميمة ماتت موت موت” فينتحر ويشنق نفسه كرد فعل على الخيبات والخسائر والانكسارات التي عاشتها سورية، إلى كل الجماليات التي افتقدتها إلى طريق العتمة والخوف والقتل والدمار، لكن استيقاظ النمس من الغيبوبة التي أصابته من داخل القبر في اللحظة الأخيرة قبل أن يرش التراب عليه فهي إشارة إلى إعادة نبض الحياة لشرايين سورية التي لا تموت.

ملده شويكاني