ثقافة

أزمة عائلية أم أزمة أخلاقية؟!

لم تعد المقالات الصحفية المدبجة تحت الطلب ومن صحفيين تحت الطلب، لمدح ذاك العمل الدرامي التلفزيوني أو غيره في هذا المنبر أو ذاك، لم تعد بقادرة على إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه من هرق ماء وجه بعض تلك الأعمال أمام الجمهور، وما كان يمرّ من طلاسم نقدية على القراء عن هذه الأعمال في تلك المقالات، لم يعد يمرّ، فمتفرج اليوم قراره بيده، وعندما يُجمع الجمهور على هبوط وانحدار السوية الفنية والفكرية والأخلاقية لعمل ما، فلا يكلفه الأمر إلا كبسة زر ليغير القناة، وهكذا تصبح الدراما في أزمة عندما يهجرها حتى جمهورها.

هذا ما حصل مع العديد من حلقات الدراما التلفزيونية “أزمة عائلية” –تأليف شادي كيوان- إخراج شيخ “السيت كوم” هشام شربتجي- فالعمل الذي يحمل انتقادات حادة للأداء العام لحال البلاد وللعديد من التفاصيل التي تدخل في صلب الواقع السوري الراهن، كتلك التي كان طرحها غير مرة “محمد الماغوط” في غير مقال وكتاب وعمل درامي، وغيره من الذين اشتغلوا لهزم المثالب الاجتماعية بهذا الفن، ولم يستطيعوا إلا تكريس تلك المثالب والعيوب للأسف، عمد العمل إلى تقديمها بقالب كوميدي “ليس معلوما إن كان من الكوميديا البيضاء أو السوداء” جاءت فيه هذه الكوميديا باهتة ومملة وتصل حد السأم أحيانا، وكأنها استرجاع لما بقي بذهن “شربتجي” عن أعمال من هذا النوع، منذ “عيلة خمس نجوم” وما بعده، صريخ وزعيق وحركات اعتباطية وشخصيات سواء تدخلت في الحالة الكوميدية للعمل أو لا،فلن يتغير شيئا في سياق الأحداث، كما أن وجودها –أي الشخصية- لم يأت بسياق درامي من طبيعة العمل نفسه ليخدمه فيه، بل جاء وكأنه – تكرم عينك بتشتغل معنا- أيضا لعب مجاني وبائت على الألفاظ، بهلوانية باردة في الأداء الجامد عند بعض الشخصيات، التي يظهر أداءها الكوميدي وكأنه تقليد المقلد ومحاولة التهريج الارتجالي أكثر منه التهريج المدروس –التهريج فن، أعمال شارلي شابلن مثلا-، عدا عن خروج حالتها برمتها عن حالة العمل “كما في حالة الشخصية التي قدمتها الفنانة “ليا مباردي”. أما عيوب السيناريو فحدث ولا حرج، وقت طويل مهدور على الهواتف النقالة، حوارات باهتة في إيحائها الكوميدي الساذج والممل، جمل وعبارات تبدو وكأنها فُصلت على حاجة الإخراج، لا العكس! نكت باردة و”تقفيل” بالكلام صار من زمن مضى، بعد أن استهلكته أعمال تمتهن نفس السماجة كـ “بقعة ضوء” مثلا، لكن كل هذا يمكن قبول بعض أعذاره وفهمه وفق سياق أن الإبداع ليس هبة ومنحة، وليس كل من صف صواني صار حلواني، و”مو كل مرة بتسلم الجرة” الخ من الحجج التي مللنا سماعها، أما ما لا يمكن فهمه أو إيجاد عذر له، هو تلك الإساءة الشديدة التي قدمها العمل في عدة حلقات تم عرضها منه للعديد من القيم التي لا تحتمل المس بها، و لم يكن آخرها الإساءة البالغة لحالة الشهيد، ولمفهوم الشهادة في الوجدان والضمير السوري، وما تعنيه هذه الصفة “شهيد” من كونها مقدسة، ولا يجوز التلاعب بمفاهيمها لغاية التسويق التجاري، – وليته نجح في هذا- فإحدى الحلقات لم تجد حرجا مثلا من أن ترينا صورة ولا أبشع، عن حال الشهداء، هؤلاء الذين هم السبب بأن الشركة المنتجة وغيرها في البلاد تعمل بفضل أرواحهم ولا يجوز تناولهم إلا بكل الوقار والجدية التي لا تحتمل التأويل، لأنهم دفعوا دمهم، ولم يطلبوا دورا لهذا أو دولارا لتلك.

تحكي قصة الحلقة المشؤومة عن أسرة شهيد مكونة من أرملته وابنه، يجيئون إلى العاصمة لأسباب تتعلق بتحصيل حقوق شهيدهم، ويقيمون عند الأسرة بحكم قرابة الأم بأرملة الشهيد – أدت دورها الفنانة “تولاي هارون” وتبدأ الأحداث تتوالى في انحدار معيب لرمزية الشهادة، حتى يكتشف الجميع أن الشهيد لم يستشهد، فتقوم الدولة بسحب هذه الميزات كونه ليس شهيدا! -حجة تبرير ما سبق من أذى في الحلقة بحق الشهادة المقدسة وشهدائنا الكرام وذويهم أيضا- وهنا تبدأ حتى أسرته “زوجته وابنه” بالتمني لو أنه بقي شهيدا بعد الميزات الكبيرة التي نالها من الدولة بسبب شهادته وفقدوها بعدمها “مليون ليرة نقدا، شرعنة مخالفة بيت الشهيد الذي كان سيهدم لكن شهادته أوقفت القرار، إعفاءه من أقساط قرض بنكي، ابنه الذي نجح “شحط” بالبكالوريا ويحق له وفق علاماته أن يدرس معهداً تجارياً لكنه درس طب بسبب شهادة والده”، وهذا جميل ولو أنه غير واقعي، وكأن من كتب العمل “شادي كيوان” لا يحيا بين الناس وأسر الشهداء الذين يساوي “ظفر” شهيدهم عندهم كنوز الدنيا وما فيها.

ولكن لماذا نصف الحلقة بأنها أساءت للشهادة ولقيمها؟ الأسباب كثيرة ويحار المرء من أين يبدأ فيها ولكن لا بد من تقديم بعض الأمثلة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

الشهيد غير معروف بداية إن كان هو أو غيره! إنه نكرة، فبداية تعرفنا كجمهور عليه، كانت باللبس الذي حصل بقالب كوميدي باهت،بسبب الخطأ الذي وقع فيه كل من رئيس المخفر وجار الأسرة نصف المجنون “أبو الروض” أدى دوره الفنان – معن عبد الحق-، هو عدم تأكدهم من هوية الشهيد الذي جاؤوا لينعوه لأهله، وعوض أن يتقدموا بالمواساة باسم الشهيد “طلال المسعود” زوج قريبة الأم، يظن الأولاد أن الشهيد هو “طلال” صهر الأسرة أدى دوره عاصم حواط- وتدخل خطيبته – أدت دورها الفنانة “نجاح مختار” في غيبوبة تهريجية متكررة، قبل أن يأتي الأب والأم بصحبة الضيوف، ويعلمون الحقيقة.

ولكن كيف استشهد هذا الشهيد؟ لقد استشهد بعد أن سقطت القذيفة التي لم تنفجر على رأسه – أي سخرية هذه- إنه شهيد الصدفة، شهيد الخطأ، ورغم وجود هكذا حالات كاستشهاد العديد من السوريين بشظايا القذائف، -لكن الكاتب قرر أن يخترع “مسخرة” جديدة ليضحك بها الجمهور، القذيفة التي لم تنفجر، سقطت على رأسه فاستشهد!- وهذه الحالة حتى لو كانت موجودة، فلا يجوز تقديمها بهذا الاستخفاف لأن الجمهور يعمم،ولا يجوز انتقاءها من الأساس لتكون حاضرة كمثال عن حال الشهادة عندنا، لكن الكاتب يبدو أنه يرى أن الشهداء أخذوا أكثر من حقهم بكثير وآن الأوان لتكسير صورتهم وهالتهم في عيون وقلوب الناس!

ابن الشهيد– أدى دوره الفنان “محمد حمادة”- عدا عن كونه متخلف عن مواكبة العصر، هو أيضا يبتز الآخرين باستشهاد أبيه، “أبي متوفى لاعبني طيب- أبي متوفى بدي أكل، بدك تضربني بوكسين وأنا ابن شهيد وغيرها من هذه السماجة التي تجيء هنا على أنها كوميديا” كما أنه يسال بخبث عن ملكية الأشياء وكأنه يشك بأن كل شيء لا يحصل عليه، يناله الآخرون بالسرقة، وهو بالضرورة يستطيع نيله هكذا، إنه لص، هكذا ربّا الشهيد ولده الوحيد، أن يكون لصا، معفشا -بالدراج اليومي الجديد نسبيا علينا- ابن الشهيد “فجعان” أيضا بمشهد كوميدي ممل وسمج، لم يتم تصويره إلا مئات المرات في الدراما عموما، حيث يفتح البراد ويجلس ليأكل بشراهة دون تمييز بين طعام حلو ومالح، إنه بلا ذوق ولا يتحلى بأبسط الآداب العامة، كونه سطا على البراد!.

“أزمة عائلية” العمل الذي أنتجته “المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي – مع غياب تام لكل ما له علاقة بالإذاعي- وأشرفت عليه المخضرمة “ديانا جبور”  كان من المأمول منه خصوصا بوجود قامة إخراجية كبيرة في الدراما التلفزيونية الكوميدية مثل “شربتجي الأب”، أن يكون رافعة أعمال هذا الموسم البائس، لكنه للأسف لم ينج من الانحدار الأخلاقي السائد الآن في حال الدراما التلفزيونية عموما بحجة التسويق، ولكن إن لم يكن الجمهور السوري الذي يقدس الشهادة هو المستهدف في هذه الحلقة، فمن الجمهور المقصود إرضاءه ولو على حساب دماء شهدائنا الكرام هاهنا، وهل ما نشاهده هو أزمة عائلية أم أزمة أخلاقية خصوصا في الحلقة الآنفة الذكر؟!.

تمّام علي بركات