ثقافة

السياب والجمال في “أنشودة المطر”

تنبني قصيدة أنشودة المطر، على علاقة مركزية تنشأ يبن صوت الشاعر والرمز الذي يستدعيه، وهي حالة جمالية يحدد ذاتها في القصيدة، فعشتار (آلهة الخصب) التي يتحول النص في حضرتها إلى قداس ابتهالي، تمثل دائرة مركزية أولى يتحلق حولها حشد من الدوائر المتتابعة، وهذه التتابعية تضفي على القصيدة صور جمالية رائعة، حيث تلمح الأم التي ماتت والطفل يهذي قبل أن ينام يقول الشاعر.
كان طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه التي أفاق منذ عام
فلم يجدها
ثم حين لحّ في السؤال قالوا له (بعد غد تعود)
لابد أن تعود
وكذلك نرى الشاعر بدر شاكر السياب يبشر بالثورة بطريقة جمالية واسعة الطيف أو كأنه يقول هي ثورة تشمل كل العراق، يقول الشاعر:
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويخون البروق في السهول والجبال
حتى إذا ما فاض عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الوادي من أثر
وهنا نلحظ وكأن القصيدة سلسلة من التموجات الدائرية التي تقود الواحدة منها إلى الأخرى على نحو انسيابي تلقائي، لذلك تبدو جمالية القصيدة من كونها حشد من الومضات المتناوبة تأتي لتضيء الواقع، وتكشف التناقضات التي تعتمل في قلب المجتمع ثم تفور من جديد في منبعها بقوله:
ومنذ أن كنا صغاراً
كانت السماء
تقيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع
مطر
مطر
مطر
ونتيجة لهذا الشكل الدائري في القصيدة، تتمكن القصيدة من الإحاطة بكل مناحي الحياة، حيث يستطيع الشاعر أن يصوغها بنبرة درامية، كي تنفد إلى دواخل المتلقين، كما أن الشاعر استطاع أن يأسر القارئ في استهلالية غزلية رومانسية جميلة، حيث تمكن من استدراج المتلقي، في قوله:
عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناكِ حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء.. كالأقمار في نهر
يرجه المجذاف وهناً ساعة السحر
إن هذه الدائرة في الشكل، تمثل رابطة جمالية تشد مفاصل النص وتجنبه الأفكار والتفكك، ذلك أنه يتحكم بجميع الحركات الداخلية لبنية النص الشعري وهنا يوظف الشاعر الجمل الاسمية ليوحي باللازمان:
عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
هكذا تبدو القصيدة، أنها تريد أن تفلت من شروط الزمن وتتحول إلى نبوءة أسطورة وهنا كذلك تضطلع الجملة الاسمية بدور آخر في غاية الأهمية عندما توحي بالسكون والهدوء لذلك تأتي الجملة الشعرية الأولى وكأنها نوع من التجلي، أما الصورة فيها مشبعة بالشفافية والابتهالية ثم ينتقل الشاعر من السكون العالي إلى العقلية التي تشي بدلالة واحدة هي لحظة البدء.
تورق الكروم
ترقص الأضواء
كأنما تنبض في غوريهما النجوم
ضمن هذا التوجه فإن (أنشودة المطر) تحاول أن ترسي بنيتها الجمالية وحسب ما يتطلبه التوجه الدرامي، وبذلك تكون هذه الأنشودة قد أشارت إلى أفق جديد سترتاده القصيدة العربية المعاصرة في جمالية خاصة لدفق شاعر مقهور.
د. رحيم هادي الشمخي