ثقافة

الراشد عاد من الموت.. والأطرش نفذ الوصية

يصف المخرج المسرحي ممدوح الأطرش عمله المسرحي الجديد “الوصية” والذي سيبدأ تقديم عروضه مساء اليوم الاثنين على خشبة مسرح الحمراء، أنه أول عمل سوري يوثِّق لما حصل في مدينة عدرا العمالية بعد هجوم الإرهابيين الإجرامي عليها،  وتسليط الضوء من خلالها على تعاضد المجتمع السوري بانتماءاته المتعددة وقد وحَّدتْه المصيبة والهجمة الشرسة عليه، لتكون رسالة العرض برأيه التأكيد على أن الحل هو بيد السوريين وليس بيد أحد آخر، وقد ثبت خلال الحرب قدرة هذا الشعب رغم حجم المصيبة على تصدير ثقافة الحياة واللُّحْمة الوطنية والعطاء مقابل ثقافة الموت ورفض الآخر وإثارة النعرات الطائقية التي حاولت أطرافٌ عديدة تعميمها وترسيخها.

بين الجسد والكلمة
وفي زحمة الأعمال المسرحية التي وثَّقت لجانبٍ من جوانب الحرب على سورية كان من الضروري برأي الأطرش تسليط الضوء على ما حدث في عدرا العمالية بعد احتلال الإرهابيين لها، وارتكابهم لأفظع الجرائم فيها وهي التي كانت نموذجاً لسورية، لأنها تجمع كل الأطياف السورية الفكرية والاجتماعية على أرضها، وأوضح الأطرش أنه ركز بالدرجة الأولى على الحالة الإنسانية والروابط الاجتماعية التي كانت تربط الناس وكيف تعاون الجميع دون استثناء وتوحدوا في وجه الإرهاب، وبيّن أن “الوصية” من الأعمال القليلة جداً التي تتوازى فيها لغة الجسد والكلمة، جامعاً فيها بين ما هو توثيقي وما هو درامي في آن واحد، مؤكداً أنه وصل لنتائج مُرضية خلال فترة زمنية محددة ليكون العمل مقبولاً على صعيد شكل العرض الذي نُفِّذ في الظروف الصعبة التي يعاني منها الجميع، ومنها المسرح.

الطريق إلى الشمس
وحين يقارن الأطرش بين عمله المسرحي الاستعراضي الأخير “الطريق إلى الشمس” و”الوصية” يبيّن أن “الطريق إلى الشمس” تناول الماضي لربطه بالحاضر، وأكد فيه أن أهلنا في الماضي وقفوا ضد الاستعمار العثماني والفرنسي ونجحوا في الانتصار عليهما في حينه وإن كان التاريخ يعيد نفسه، و”الوصية” تنهل مما يحصل اليوم في سورية لتؤكد على أن السوريين اليوم كما آباؤهم وأجدادهم قادرون على إنهاء اللعبة المسرحية التي أُخرجَت في الخارج لتنفَّذ في سورية، وتحول مسارها بعد أن خططوا لعمل محكَم كتبوا بدايته ونهايته.. ومن وجهة نظر ممدوح الأطرش كفنان استطاع الشعب السوري أن يكتب نهايتها بالطريقة التي يريدها.
ويرى الأطرش أن لغة الجسد في “الطريق إلى الشمس” هي حالة استعراضية تعبِّر عن حالة تاريخية، في حين أنها في “الوصية” نابعة من الحالة الدرامية التي تختصر الحالة الراهنة لما يعيشه السوريون بطريقة تفكيرهم التي من المفترض أن تصل لكل الناس.. من هنا جاء التعبير الجسديّ من صلب الحدث وطبيعته عبر تحقيق معادلة صحيحة بين ما هو توثيقي وما هو درامي دون أن يطغى طرفٌ على الآخر.

من أصعب الأعمال
ولا ينكر الأطرش أن تقديم عمل مسرحي استعراضي كـ “الوصية” فيه دراما ورقص وغناء يعدّ من أصعب الأعمال التي تواجه المخرج، إلى جانب العمل على تحويل المادة التوثيقية الجامدة والمباشرة إلى مادة درامية إنسانية معبِّرة، وهنا برأيه تكمن الصعوبة في طريقة الطرح وشكل العرض، متمنياً أن يكون قد وفِّق في تحويل الحدث الواقعي المؤرَّخ بزمن إلى حالة درامية تقوم على بناء علاقات مختلفة بين أفراد المجتمع، موضحاً أن الكاتب فيصل الراشد كتب “الوصية” وهو الذي كان محاصَراً في عدرا العمالية كما عدد كبير من أبنائها، وعاش هاجسه الشخصي من أنه قد يُقتَل في أية لحظة، فكتب “الوصية” وأوصى بأن يقوم الأطرش بإخراجها، وشاء القدَر أن ينجو الراشد ليقوم الأطرش بتنفيذها اليوم، ويبيّن أن نص “الوصية” الذي أعده أحمد سلامة ويقوم ببطولته عدد كبير من ممثلينا وراقصينا، كان يميل إلى الميلودراما فقام بتحويله إلى نص يوازن بين جميع عناصر العرض المسرحي، آخذاً بالاعتبار الناس الذين حوصروا في قبو البناء رقم 16 والتفافهم حول بعضهم للوقوف في وجه الإرهابيين للنجاة بأنفسهم من هذه المصيبة.
ولأن المخرج مؤلف ثانٍ قد يتوافق أو يتناقض مع الكاتب يذكر الأطرش أنه كمخرج توافق مع ما كتبه الراشد بأجزاء كبيرة من “الوصية”، وفي أجزاء أخرى ركَّز على البُعد الإنساني أكثر من البعد الواقعي، خاصة وأن العمل اجتمعت فيه عدة مدارس: الواقعية والشَّرطية والأداء الحركي واتجاهات مسرحية أخرى من خلال عرض مسرحي واحد اجتمعت فيه كل الاختصاصات، فكان الجميع فيه دون استثناء أبطالاً حقيقيين متحدّين الظروف الحياتية والمهنية.. من هنا يوجه الأطرش شكره لكل العاملين في “الوصية” الذين بذلوا جهوداً جبارة ليرى العمل النور ولكل من وقف معه في إنجازه.

الإنسان
ولا يستغرب ممدوح الأطرش من هروب المخرجين من العمل المسرحي الاستعراضي، لأنه شديد الصعوبة ويحتاج لإمكانيات كبيرة واختصاصات متعددة من غناء ورقص ودراما، ولديكور ضخم ولأشياء كثيرة، مشيراً -وهو الذي ينحاز لهذا النوع من المسرح- إلى أنه عندما عاد من دراسته في أكاديمية الفنون في القاهرة عام 1973 وجد أن هناك نوعين من المسرح في سورية: المسرح الرسمي المتمثل بما يقدمه المسرح القومي عبر أعماله التي كانت تتكئ على نصوص أجنبية وجمهور محدود، ومسرح القطاع الخاص الذي يقدم عروضاً تجارية ويحضرها جمهور كبير، عندها أراد أن يجمع بين النوعين من خلال طرح أفكار مهمة عبر عروض تقدَّم بشكل جذاب يغري الجمهور لإيصال الرسائل المطلوبة.. من هنا بدأ الأطرش بتقديم مثل هذه العروض وما زال لطرح قضايا مهمة، خاصة في ظل الحرب الحالية التي تحتاج لكل الجهود ومن قِبَل الكل، إيمانا منه بدور المسرح وأهميته كوسيلة راقية لبثِّ الرسائل المطلوبة، متمنياً أن تصل رسائل “الوصية” بالشكل المطلوب.
ونوّه الأطرش إلى أن حلمه اليوم أن يرى عمله “الإنسان” النور في أقرب وقت ممكن وهو مشروع كان من المفترض أن يرى النور قبل الحرب التي أخَّرت تقديم عمل سيخرج للعالم، وفيه تم تطويع الموسيقا العالمية لتخدم الكلمة العربية، للتأكيد على أن اللغة العربية لغة أصيلة وقادرة على التكيف.

أمينة عباس