ثقافة

“باللـــــــــــــه يا أنطاكيـــــــــــــة” صلاة من أجل السلام وإحياء للتراث الأنطاكي “في الكنيسة المريمية”

“بالله يا أنطاكية، ألا نعود ثانية، فالشوق أبكى قلبنا، بكل نار حامية” هذه القصيدة التي كان لها وقع كبير في أرجاء الكنيسة المريمية حينما أنصت الحضور بتأثر شديد إلى سياق كلماتها المؤثرة المتأججة بالحنين، هيمنت عليها روح السكينة المنبعثة من رقة الوتريات المتناغمة مع اللحن المرافق للإيقاعيات العربية ضمن مسار الإيقاع المتسارع وعلو الصوت في السؤال”هل ضاع حق حينما، جنى علينا الطاغية”، بصوت مرنمي كورال الكنّارة الروحية بقيادة الشماس ملاتيوس شطاحي، وبمرافقة الأوركسترا التي جاءت بتشكيلة خاصة من الوتريات(كمان أول وثاني- فيولا- تشيللو- كونترباص) وآلات التخت الشرقي: (العود والقانون والناي مع مجموعة آلات إيقاعية عربية) بقيادة المايسترو أندريه معلولي لإحياء ذكرى عيد مؤسسي الكرسي الأنطاكي القديسين بطرس وبولس التي صادفت منذ أيام لتتقاطع هذه المفردات من التراث الأنطاكي مع كلمات وكيل بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس المطران أفرام معلولي، الذي وصف مدينة أنطاكية العظيمة الوادعة بنافذة الروح إلى العالم داعياً إلى الصلاة من أجل السلام في سورية وفي كل بقعة من أرجاء هذا العالم، مشيداً بجمالية الأشعار التي نظمها كبار الأساقفة. وقد تميّزت الأمسية بغناء مقتطفات من التراث الأنطاكي الديني والشعبي وبتراتيل دينية وأغنيات وطنية، فجمعت بين أنماط غنائية موسيقية متعددة، رغم أنها أمسية دينية لازمت ذكرى الحدث الديني العظيم. والأمر اللافت هو التوزيع الأكاديمي والأوركسترالي للتراث الأنطاكي بما يتناسب مع خصوصيته الدينية، وبعد “بالله يا أنطاكية” بمشاركة كريستين خرسان بالغناء الإفرادي وتوزيع ناريك عاباجيان، غنى الكورال “أنت سورية بلادي، أنت عنوان الفخامة” كلمات فخري البارودي وألحان متري المر، الموسيقار والمرتل الأول في الكرسي الأنطاكي الذي أكد على أصالة اللغة العربية والنغم البيزنطي، واشتُهر بأناشيده الوطنية والترنيمات الدينية.
بدأ النشيد بجمل موسيقية مبنية على خصوصية المارش العسكري بتوزيع المايسترو عدنان فتح الله، تلتها ترتيلة دمشقيات باللحن الخامس نظمها القديس يوحنا الدمشقي ومن ألحان متري المر، تميزت بنغمات الناي والتشيللو، ليبدو تأثير الناي –العازف إبراهيم كدر- والدف والرق مع مساحة كبيرة للوتريات في”أعطني هذا الغريب” كلمات وألحان الأب ميشال سابا وتوزيع كمال سكيكر، بمشاركة حنين بغدان بالغناء الإفرادي،”عاش في الأرض غريباً، وارتضى موت الصليب”، وتميز نشيد القديس اليان الحمصي، كلمات داود قسطنطين الخوري الذي عمل مع أبي خليل القباني وألّف مسرحيات تحض على الانتماء الوطني والاعتزاز القومي ثم هاجر إلى البرازيل، وقد وبنيت ألحان هذا النشيد على وزن تقليدي” لك يا أرض الشام”، وسبق بتقاسيم جميلة للقانون –العازف عمران عودة-” مع حضور القانون مع التشكيل الأوركسترالي”: يا شهيداً قد تجلى، في البرايا نور فضله”.
كما حفل البرنامج بترتيلة المجدلة الكبرى- حجاز كار، وقصيدة ما غاب جمالك عن بشر كلمات المطران أبيفانيوس زائد، وألحان إلياس الزيات، وتوزيع عدنان فتح الله، وقصيدة الربيع من ديوان المطران أبيفانيوس زائد التي لحنها أحد أعضاء الكورال فادي سمعان وشارك بالأداء الإفرادي لها وبتوزيع كمال سكيكر. واختُتمت بالنشيد العربي السوري المعتمد في عهد حكومة الملك فيصل، والذي ردده يوسف العظمة في معركة ميسلون، كلمات وألحان متري المر، توزيع كمال سكيكر”يابلادي يابلادي، يا ضيا البلدان”.

الحفاظ على التراث
وعلى هامش الأمسية كانت لنا وقفة مع المايسترو أندريه معلولي الذي تحدث عن أهمية هذه الأمسية الغنية بالتراث الأنطاكي الديني والشعبي والذي لحنه كبار الأساقفة في الكنيسة البيزنطية، وساهم القديس يوحنا الدمشقي بوضع قوانين الموسيقا البيزنطية. أما عن خصوصية الأوركسترا المؤلفة من خمسة وعشرين عازفاً فيرى  أنها كانت مختلفة وجاءت بتشكيلة خاصة لتتوافق مع خصوصية هذه الألحان المنتمية إلى النمط الشرقي، فابتعدت عن آلات النفخ وتألفت من عائلة الوتريات والآلات الإيقاعية العربية الدف والرق والمزهر المناسبة لإيقاع الموسيقا الصوفية، مع الآلات التقليدية الناي والعود والقانون، وقد أعيد توزيع المقطوعات بتوزيع أوركسترالي أكاديمي بما يتناسب مع طبيعة الموسيقا الكنسية الأرثوذكسية التي لاتعتمد على الموسيقا وإنما على الغناء الجماعي والإفرادي، ونحن نقوم بإدخال الآلات الموسيقية إلى العلوم الموسيقية البيزنطية كمشروع جديد لتطوير الموسيقا بحدّ ذاتها، مع الحفاظ على خصوصية الموسيقا والتراث دون المساس بأي عنصر من عناصره، وهذا المشروع يقام لأول مرة في الشرق الأوسط وينطلق من سورية مهد المسيحية إلى العالم.
إضافة للدور الفعّال الذي تقوم به الكنيسة بتبني المشروع الموسيقي الجديد للعمل معاً من أجل إطلاق مشروع موسيقي ذي طابع أكاديمي علمي، وفي الوقت ذاته يكون مدروساً دينياً كي لانخترق أية قواعد وأسس دينية، وأشاد بتجربة كورال الكنّارة الروحية بقيادة الشماس ملاتيوس شطاحي الذي يعمل بأسلوب أكاديمي وبحرفية عالية.
وأعرب المايسترو فتح الله عن سعادته بمشاركته الثانية بالتوزيع الموسيقي مع كورال الكنّارة الروحية الذي ترك بصمة قوية وحقق حضوراً وأثبت تطوره المتصاعد في كل نشاط فمضى من نجاح إلى آخر، وقد ساهم المايسترو فتح الله بإحياء ذكرى العيد لهذا العام بتوزيع نشيد “أنت سورية بلادي” ألحان متري المر على مقام الرصد، وكانت تجربة صعبة لخصوصية المقام، كما أعاد الكورال غناء قصيدة “ما غاب جمالك عن بشر” التي قام فتح الله بتوزيعها العام الماضي.

أنطاكية جزء من سورية
وتحدث د. جوزيف زيتون المسؤول عن الوثائق البطريركية ومؤلف المادة التاريخية في البروشور عن أهمية ذكرى تأسيس الكرسي الأنطاكي من قبل القديسين بطرس وبولس في مدينة أنطاكية مهد المسيحية الأول، وكانت أنطاكية عاصمة سورية آنذاك ومنها انطلقت إلى كل العالم، وبذلك يسبق الكرسي الأنطاكي تأسيس كرسي روما (الفاتيكان). وتابع د زيتون حديثه عن الفعاليات المترافقة عادة مع إحياء ذكرى تأسيس كرسي أنطاكية التي تتضمن قداديس وصلوات وعظات إلهية ومعارض وأمسيات موسيقية من التراث الأنطاكي، وتميزت هذا العام بقداس ضخم وبأمسية بالله يا أنطاكية، مشيداً بأهمية التراث الأنطاكي وضرورة الحفاظ عليه.

السوري هو الأنطاكي
ووصف الأب يوحنا اللاطي عيد تأسيس الكرسي الأنطاكي بالعيد الوطني، فأنطاكية –تركيا حالياً- كانت جزءاً من سورية وكانت مركز المسيحية قبل أن تنتقل إلى دمشق، وتوقف عند الأهمية التاريخية والمعنوية لهذا العيد قائلاً: نحن نشهد على المدى الجغرافي الأنطاكي في سورية ولبنان والعراق، فشعوب هذه المنطقة عامة تتصف بالعيش المشترك، وهي أنموذج للمحبة الصادقة والتآخي والوفاق، وأشاد بالشعب السوري الذي وصفه بأنه أغنى شعب بالعالم بالمحبة والرقة والتسامح والخلق الحسن مركزاً على أن الإنسان السوري هو الإنسان الإنطاكي.
ملده شويكاني