ثقافة

تداعيــات

سماء وأرض

صافحت الشمس جبهته السمراء المنحسرة انحسار الرمل على الشاطئ.. جفف عرقه واتجه ليجلس تحت ظل شجرته.. ما عساه يفعل.. كل يوم ينشد الموال ذاته، مع هذا يعود لإقناع نفسه بأن الأرض تعطيه بقدر جهده، لكن أفكاره تزدحم وهو يراقبها من جهة لأخرى.. اعتلت الشمس لتلهب الأرض، نهض ليجمع أغراضه ويعود لبيته، لم يستطع جمع أفكاره.. هل يترك أرضه ويبحث عن عمل أفضل؟ هل سيكون قادرا على تحمل الاهانة في عمل خارج أرضه. يعود للبداية في أفكاره، لكنه فلاح من عائلة جبارة كما الشجرة لاتثن تحت حد الفأس، قد تيبس، قد ينساب النسغ على الخدود المشققة، لكنها تصمت، ومع ذلك يظل مرفوع الرأس رافضاً أن يزحف كالديدان في الظل البارد، مهما فعل لا يملك سوى الكبرياء والكرامة الإنسانية التي لا يستطيع أحد كسرها، تخيل للحظة من هم مثله، ينحنون على حصادهم، يجمعون القطاف بين لحظات الفرح، وألم في أعماق واد يسفك عرقهم ويسلبهم حياتهم مقابل شيء من البؤس والخبز، غفا وأحلام مزعجة تقلق غفوته، نهض كعادته، حمل مجرفته واتجه نحو أرضه، للحظة ما أدرك وهو في طريقه أنه مرتاح في قرارة نفسه.. وضع مجرفته وكان أول ما فعله بعد أن رفع رأسه إلى السماء التي بدت تأسر مجامع الروح بلونها الجماني الذي أكسب الحياة بكل تفاصيلها رونقاً يعجز الإدراك عن تفسيره، فبين تلك السماء الفضية المتناهية، وهذه الأرض السمراء الواسعة الغارقة في النور، شعر أنه مالك لحريته، وأدركه حنين تصعب مقاومته، لأن يرفع يديه عاليا ويصرخ ملء ما في قلبه من حب للحياة.. ها أنذا.. إنني أحيا ولن تستطيع قوة على وجه الأرض أن تأسرني.

لحظات شتائية

عندما يتذكر رحلاته مع أصدقائه يندفع في الغابة مثل أسير حطم أغلاله، غير آبه لما يمر في طريقه، عندها فقط وهو مبتل من رأسه حتى قدميه يرتجف من التوتر، يبتلع بنهم رطوبة الغابة، وتفوح الوديان بعبق الأوراق المتفسخة ولحاء الشجر الرطب، ثم تشتد رائحة العفن المنبعثة من الوديان، وتبرد الغابة ويخيم الظلام.. ها قد حان وقت المبيت.. يدخلون فناء مجهول النسب، يضاء بقليل من الحطب المشتعل، يلتمسون الدفء والأمان، وفي شفق الفجر والريح الجليدية، وأول القطرات الرطبة ينطلقون إلى الغابات والحقول، ويعودون في غبش المساء ملطخين بالوحول، تفوح منهم رائحة وبر الحيوانات المصادة، يحسون في الفناء الآهل المضاء بعد يوم كامل في برد الحقول بالدفء والأمان، يأكلون ويشربون متبادلين فيما بينهم انطباعات فائرة عن الضبع القتيل مكشراً عن أنيابه، قالباً عينيه، صابغاً الأرض بدمه الشاحب.

تتناهى الأحاديث وكأنها تمر عبر الماء، والوجه الملفوح بالريح يكاد يحترق من وهج النار، ولكن ما إن يغلق عينيه حتى تنساب الأرض تحت قدميه، ثم يغرق في النوم سعيداً معافى، لقد فوت صيده يوما وهو مستغرق في النوم مستمتعا براحة لطيفة، يرقد طويلا في الفراش، والهدوء يسود البيت كله ويسمع كيف يطقطق الخشب ويلعلع في الموقد، أمامه يوم كامل من السكينة في هذا البيت الشتائي الصامت.. مر الوقت سريعاً.. هاهو يرى نفسه من جديد في عمق الخريف، كان الطقس أزرق تماما، كانت الريح تئن و”توحوح” في فوهة البندقية، كان يمضي النهار سابحاً في السهول المقفرة، يعود إلى البيت في غبش المساء جائعاً خاملاً.. وعندما تفوح رائحة الدخان المتصاعد العبقة يحل في روحه الدفء والمسرة، فيتذكر أهله وهم يحبون الجلوس والسمر في عتمة الأماسي مجتمعين حول موقد الحطب، أحس برغبة أن يرسم للعالم مخططاً على نموذج ضيعته الواسعة الهانئة.

ألم غربة

أيقظها من نومها العميق، دوار يائس ملأ رأسها بأفكار ما إن تومض حتى تنطفئ تاركة وراءها أكواماً موحشة من الرماد، خرجت إلى ساحة الدار لتريح نفسها المتعبة وتستنشق عبق الريحان والربيع الدافئ الذي يذكرها بأهلها وقريتها، أحست بنفسها الغريبة المخدوعة وكأنها تلقت صفعة على وجهها، كل شيء غريب عليها، حتى تصرفات زملائها، خداع، كذب، ومصلحة قبل كل شيء.. ماتت الطيبة في العلاقات الإنسانية، أحست بثقل الصفعة، لم تحس بألم في مكانها، ولكنها أحست بلسعات كلسع النار تسري في بدنها، ثم تتجمع اللسعات في مكان ما من صدرها، الذي تنزف فيه كرامتها، آدميتها، كبرياءها، ضاق صدرها.. ضاق حتى بدأت تحس بالاختناق، ثم اغرورقت الدموع في عينيها، بدأت تبكي، لم تستطع التفوه بكلمة واحدة وكأن لسانها سجن وراء قضبان من دموعها التي انهمرت وكأنها تطفئ نارها. أغلقت باب غرفتها.. في كل يوم تتخيل أطيافاً تأتي إلى غرفتها.. سمعت أصواتاً عزيزة عليها، مست هذه الأصوات أعصابها فشدتها، وأحست كأن الروح ترتد إلى صدرها، وكأن طيفاً حانياً يمسح على رأسها ويجفف دموعها، أحست أنها مع كثيرين ينظرون بإعجاب إليها ويشدون أزرها.. فتحت النافذة.. كان المساء ينوح في الشوارع الضيقة، والسكون ينفخ روحه في كل الزواريب، والظلال تتمدد على الأسطح والشرفات وقباب المساجد.. ستكون أقوى من هذه الغربة، ستكمل دروسها، وستنهض لتواجه أي صدمة.. سيكون لها ما تتمنى وإن طال الوقت.. صعد المؤذن إلى مقصورته، رفع كفه إلى أذنه وكبّر على مخلوقات الله للنهوض للصلاة، تسلل الصوت الناعم مع النسمات الآتيات مع أول ضياء النور.. غفت قليلا قبل أن تهزها يد الفجر الحانية تطلب منها النهوض إلى البئر لتنتشل ماءه وتبدأ يومها من جديد.

تغريد الشيني