ثقافة

مرسول الحب..

جئتُكِ متأخِّراً، خمسون دهراً وأنا أضمرُ لكِ اعترافاً ضمنياً بالحبّ، وأُحمِّلُ الحمامَ الزاجلَ رسائلَ شفاهية، وأكتبُ شعراً حراً على رَمْل الصحراء المُتحرِّكٍ. أنفقتُ الوقت الجادَّ في العَبث: درَّبتُ موجَة البحر النيليِّ على غناء “العتابا”، وأرسلتها إليك “مُدْمجة”، أخرجتُ الهواء عن هدوئه الصيفيِّ الرتيب، وطيَّرته نحوكِ راقصاً، كأنَّه “زوربا” في خروجه المؤقت عن خطوط الرواية. جئتكِ متأخِّراً، بعدما صار مجموع الحبِّ حضارات، ومجموع العبث عصوراً.

أحببتكِ لما كُنَّا نتوسَّدُ حجَريْن لهما في الحبِّ غايات أخرى، وانصهرنا في قبلة قديمة، وهذا البرونز الذي يلمعُ كأثر بحر أبيض على جسدكِ، هو مِلحي وزبد العطش. جاء بيننا عصرٌ طويلٌ من الحديد الذي لا آخرَ لسكَّته، مكتوبة للعشق. عشرونَ قرناً ونحن نوزِّع الجهات على الغياب، والحبُّ بيننا يبردُ كالماء في البئر، والسبَق انتهى بأنْ خسر “داحس”، وخسرت “الغبراء”، وقدَّر الله وشاءَ، أنْ نلتقي في القرن الواحد بعد العشرين في زمنٍ “داعشْ”!

أنا عاشقٌ بدويُّ من “الرقة”. الحبُّ في مدينتي كانَ يمشي مع “الفرات”، والعابرُ بينهما يحتار مَنْ يسقي الآخر، ومنْ يتقدَّمَ خطوتين صحيحتين، فتطيعُ الأرض مجراه، وحقولُ القمح بينهما كبُرتْ كما يكبرُ في التربة المالحة الشوقُ بين غريبين، وطار سرب “الموليا” على أسطح البيوت المكشوفة للسماء، ودار بخفة محسوبَةٍ مع كؤوس الشاي الأسود، ولا دَرتْ في خدرها العاشقة، التي من سرابٍ وماءٍ “منْ طرقَ باب الخبايا”: عاشقٌ أم قاتلْ.

وأنتِ عاشقة برمائية من محار الشط تسمعيني أغني لك  “يَرْدِلي.. يَرْدِلي بيضا قتلتيني”، ها أنا أناديكِ مكسوراً كالراية بيد الجنديِّ الكسيح في السطر الأخير، وأرجوكِ بأسماء الحبِّ البعيد، ودرجات الجيرة القريبة: “خافي من ربِّ السَّما وحدي لا تخليني”، فأبوكِ الذي ما جاء على ديني، لن يقبل أنْ ينتهي الحبُّ بيننا كخاتمة اضطرارية لضجر أصاب الراوي، فيمكنكِ أنْ تبقَي على دينكِ، وألتزمَ على نحوٍ ما بديني، وتصومين ما هو مكتوبٌ عليكِ، وربَّما أصومُ، وربَّما يجمعنا الله ولو كره الراوي!

جئتُكِ متأخِّراً، خمسون دهراً وأنا أضمرُ لكِ اعترافاً عبثياً بالحبّ، فشوارع “الدولة” مذعورة كالقطط في النهار، خاليةٌ إلا من “السواد” و”الأسود”، والحبُّ ممنوعٌ من الدخول إلى أزقَّتها التي تنام بعد العشاء، وبعد الصلاة، وتهمة الشوق إليكِ في محاكمها أنْ أرجمَ أمام عينيكِ، وأموت مرِّتين قتلاً، وذبحاً. فلا تناديني إنْ رأيْتِني في الولاية هائماً، لا تلوِّحي لي بالسلام..!.

عاشقٌ بدويُّ أنا من “الرقة”، وأنتِ عاشقة بحرية، أرسلتُ لكِ اعترافاً ضمنياً بالحبِّ، لكنَّ العسس قنصوا الحمامَ الزاجل، وسقطت الرسالة الشفاهية في “الفرات”، وأوقف حرسُ الحدود المفتعل للتو الرَّمل ليسألوه عن قصيدة طيَّعة للغناء، وفتشوا في النهر عن موجة مُدْمَجَةٍ تأخَّرت واحداً وعشرين قرناً قبل أنْ تصلَ “شطك وقبل أن يبلل ماء قلبك عطش روحي..!.

لينا أحمد نبيعة